نافذة الثقافة العربية

المرض الإفرنجي والداء البلدي

عالية ممدوح وروايتها التانكي

الكاتب : د. حاتم الصكر

المزيد من المقالات للكاتب
العدد الثالث والثلاثون Jul, 01 2019

تفتح الرسامة المتخفية في باريس عينيها لترى البياض المحيط بها في المستشفى، تدرك أنها مريضة فتأتي إليها وجوه بعيدة من وطنها طالعة من بياض الغيوم الآتية من وراء النافذة. تلك خاتمة تليق بالتقديم في رواية الكاتبة العراقية عالية ممدوح (التانكي). وبين حيرتين في بلدها والمهجر؛ بغداد وباريس، تلخص خيبتها بقولها إن أعضاءنا تصل نهاية الخدمة، لكنها لا تعرف أيهما أسرع: المرض الإفرنجي، أم الداء البلدي؟

هما مدينتان تنهضان بعبء السرد: شخوصه وأحداثه ومصائره، بل في تقنياته التي تمثل استمراراً تصاعدياً أو عودة تراجعية للماضي واستذكاره، وانتظام الثيمات التي تتعهدها الرواية: الحب والسياسة والحنين والفن، ومصائر الشخصيات ونهايات أحلامهم وخراب مدنهم.. تبدلات مواقع الرواة العليمين المشاركين في الحدث والمتناوبين على المهمة السردية، وإنجاز برنامج الرواية وخطابها وتشكلات عناصرها.. تلك إمكانات التحليل، الذي يلي القراءة النقدية للرواية الأخيرة للكاتبة العراقية المغتربة في باريس عالية ممدوح (التانكي) دار المتوسط (2019). بعد مجموعتين قصصيتين وثماني روايات.

الجديد في عمل عالية ممدوح قيامها بتشظية مقصودة للسرد، عبر ترتيب أحداثه من دون تتابع خطّي، يبدأ من نقطة وينتهي عند خاتمة عامة. هنا لن نجد ما يمكن التعلق به كخيط للسرد. لقد جمعت الكاتبة أسرة في ما يشبه الألبوم المصور، ووضعت لكل منهم حصة في السرد، بينما تتجه الرواية لمعضلة اختفاء البنت (عفاف) التي هاجرت من العراق إلى فرنسا، وهي في الثالثة والعشرين عام (1979)، بعد إكمال دراستها للرسم في أكاديمية الفنون الجميلة..

قد تبدو الرواية في أحد مستويات قراءتها ذات طابع بوليسي، فالفتاة ترد في أجزاء العمل الأولى كغائبة يستعين أفراد الأسرة بتأمل مصيرها وما جرى لها. هنا تنشطر الرواية إلى شطرين: يعين الاسترجاع على معرفة ماضي البنت والمكان والأسرة.

وتتأرجح الأحداث ذهاباً وإياباً حتى تنتهي لتسلم نفسها لعفاف ذاتها، وهي تروي قصة علاقتها بكيوم فيليب، الذي تروي عنه وتسرد ما آلت إليه، وكأنها مقابلة مقصودة من الكاتبة بين عالمين، وشخصيتين، ومدينتين: وهي خلاصة موضوع الصلة بين الشرق والغرب. عفاف مدججة بصورة الوطن الغابرة، وبغداد المترفة ومواطنيها المنتمين لطبقة مثقفة تمتلك الحرية والوعي والإحساس بالفن والجمال. وتضع عالية ممدوح أزمات الوطن من الملكية فالثورات التحررية حتى الاحتلال الأمريكي من وجهة نظر العائلة التي نتعرف إليها منذ الصفحة الأولى. كما تُجري الكاتبة تماهياً بين سرد الشخصيات عما يحدث، وسرد الرواية بمتنها وبنيتها.

لكن (التانكي) ليست مانفستو أو ريبورتاجاً عن الحرب وتداعياتها، والدكتاتورية التي سبقتها وتسببت في قيامها، بل تمرّ بموضوعها بخفّة وشاعرية. تتفرق التعليقات والأحداث على ألسنة الشخصيات. هنا يجب التنبيه إلى أن العمل غير التقليدي والمختلف عن السرد الخطي الممل ستجد له الكاتبة تصنيفاً جديداً للشخصيات. فكما أنها خلخلت النمو التدريجي المتصاعد للأحداث، وكما أوكلت السرد لأكثر من شخصية، ستقوم بخلخلة الأدوار ذاتها. فثمة شخصيات من خارج ألبوم الأسرة وسلالتها، لكنّ لهم حضوراً في صنع الأحداث، وتوجيه الواقعات وأفعال السرد صوب نهاياتها.

نستشهد هنا بالمعماري المعروف معاذ الآلوسي، ومشروعه المعماري في بناء مكعبه السكني الذي يجذب عفاف، ويجعلها تدرس العمارة عامين معه، قبل أن تتحول لدراسة الفن التشكيلي، وترصد ما تسميه غيرته وضيقه عند سماعه خبر سفرها. وثمة النحات يونس الهادي الحبيب البغدادي، الذي لاينجح في كسب قلب عفاف، ويدع لذاكرته أن تستعيد لقاءاتهما في الأكاديمية وخارجها، دون مصير مشترك، لذا ستعدل عفاف خط سيره باختيارها الهجرة أو السفر كما تردد الأسرة، متحاشية تلك المفردة التي تعادل في الذاكرة العراقية المنفى أو الابتعاد التام غير المبرر، والمتهم ربما بهجران الوطن ومشاكله. فهنا سبعة فصول متفاوتة الطول، تضم أجزاء معنونة، والملاحظ اكتظاظ الرواية بالعناوين، يضاف إليها عناوين الفصول السبعة، التي يخلو فصلها الثاني من العنوان. فيما تبدأ الرواية فصلها الأول بعنوان (كلاكيت أول مرة) وتنتهي بفصلها السابع المعنون (كلاكيت آخر مرة). والعنونة هنا ليست استضافة أو تناصاً مع تقنية سينمائية تحيل لتسجيل الحدث أو المشهد، وإنما هي محاولة من الكاتبة لتخفيف وقع الأحداث وجسامتها، فهي توجه القارئ ليتسلم تصويراً ضمه الألبوم وعززت شفافيته تأويلات الرسوم والمنحوتات واللمسات المعمارية.. 

أسرة عفاف، تتبادل السرد كما تتبادل واقعة الموت أو الاختفاء والانتحار والإدمان والجنون، مع أن الطبيب الذي يعالج عفاف هو من يتجه إليه السرد بالمعلومات التي تتجمع كقطع ممزقة، على القارئ أن يتحدى معرفته وقراءته ليلملم أجزاءها.. كما ترافق إيقاع تمزق الأسرة أحداث موازية تصنع إيقاعاً عاماً مميزاً للرواية.

وهنا نتفحص المكان لنرى ما أسندت له الكاتبة التي يظهر بجلاء مزجها الناجح والمتقن بين الحاضر والماضي، وكذلك مستقبل واقعة اختفاء عفاف.. وما بين الكيان الفضائي للمكانين: شارع التانكي، وهو خزان المياه الكبير في حي الصليخ، أو في مدينة الأعظمية المتميزة برفاهية سكانها وموقعها القريب من مجرى نهر دجلة. وباريس التي تشهد مرائيها وشواخصها صعود عفاف ثم هبوطها يائسة في مصحة..

والمكان هنا لا يقف مجرداً عن دلالات ما مرت به من أحداث. الآباء اليسوعيون الذين أسسوا كلية بغداد، ثم طردوا عام (1969) بعد تولي أحمد حسن البكر السلطة. وهنا نتعرف إلى عائلات وشخصيات من طبقة عُليا في المجتمع، لهم إسهام في صنع السياسات منذ مطلع القرن. والمدهش أن الكاتبة تعرض ذلك كله دون أن تشعرنا بأن الرواية تتفرع منشغلةً بالجانب التاريخي للمكان، ولا بجغرافيته التي عكست إيقاعها على أمزجة عائلة أيوب آل، التي تلهث طوال الرواية لتقديم نفسها للقارئ، مورطة إياه في مشكلاتها ومصائر أفرادها المحيرة. حتى لنسأل مع أحد الشخصيات: لماذا اختفت عفاف؟ ومتى ستعود؟ لكن الأسئلة الأهم تأتي ببساطة وتلقائية، يساعد على صياغتها هدوء تيار الحكي، دون هيجانات لغوية أو عاطفية، حتى حين يكون الأمر يقتضي ذلك أو نتوقعه. فالحرب التي تتحدث عنها الرواية في سياق سرد شخصياتها، تأتي بتركتها من القنابل، التي سقطت على بغداد ليلتها، وما جرى عام (2003) وبالقول إن رائحة الحرب موجودة تحت الثياب. وثمة العادات الاجتماعية في مدينة مختلطة الأجناس والأصول كبغداد، وحركة التاريخ، وكأن الكاتبة مثلت بهذا لما جرى للعراق ذاته، وبغداد بشكل خاص.

هكذا ستجد عفاف نفسها وحيدة بعيداً عن بغداد. لكن الأزمة تتمحور في وصف عفاف، بأنها لم تكن سعيدة في المنفى، ولم تحنق على بلدها؛ فكانت (وحيدة في المكانين)،

تعني بذلك فقدان هويتها بالسفر، وعناءها في الوطن. وهي مشكلة المهاجرين، ومنهم الكاتبة ذاتها التي أعطتها هجرتها الباريسية قدرة خاصة على تقليب المشكلة من وجوه عدة، لا بد من بيان أهمها، وهو صداقتها بالفرنسي كيوم فيليب. إنها تقول عنه عند لقائهما خلال معرضها الأول في الغربة: إنها إذ تلتقي به تكف عن مخاطبة ومناداة بلدها، لكنها تعود في صحوة عاطفية لترى حقيقة هذا الحب المأزوم بفارق اللغة والوطن. في تداعيات عفاف بعد دخولها المستشفى، تصف كيوم فيليب بأنه: (غريم بلدي فيَّ.. كنا أكثر من اثنين.. فلا يمكن أن نكتب اسم بلدينا دون أن يضحي أحدنا بخياله وبلغته..) وهذا كافٍ لوضع العلاقة في إمكان الخسارة والانهيار. وهذا ما حصل. فكأن الشرق والغرب لا يلتقيان كما في الأمثولة المتداولة.

لقد غدا المكان ذا وجود محسوس بفعل دقة التفاصيل، التي قدمتها عالية ممدوح، ولتلاحم الزمان ووقائعه بالمكان وتفاصيله كي يظللا بفضاءيهما شخصيات العمل الذين ينسجون رؤاهم بحرية وبابتكار ممتع في طريقة السرد. هنا تصنع الكاتبة عالماً متشابكاً يتسع لتكون الأسرة دالّاً على الوطن. والرواية محفلاً لمصائر كأنها تقاضي بعضها وتفتك بها. ويظل الجديد في الرواية بجانب موضوعها، تلك الوسيلة التي أعانت الكاتبة على جرأة المعالجة والتقديم في محفل فني مماثل، حيث الخبرة الجمالية باللوحات والعرض المكثف للتاريخ وجغرافية المكان، وقبل ذلك كله تصادم المصائر في صراع الشرق والغرب، الوطن والمهجر، أو بتلخيص بليغ: المرض الإفرنجي والداء البلدي.