نافذة الثقافة العربية

المكان الشخصية الرئيسية في جل أعماله

الروائي محمد الأصفر: اللغة هي أسلوب الحياة

الكاتب : ممدوح عبدالستار

المزيد من المواضيع للكاتب
العدد الستون Oct, 01 2021
الروائي محمد الأصفر من مواليد (1960م)، كاتب ليبي من حي المحيشي الشعبي بمدينة بنغازي، عمل معلم ابتدائي وإعدادي، ولعب كرة القدم في نادي السواعد، ثم تاجر شنطة.. حيث طاف عدة دول عربية وأوروبية وآسيوية، ولم يكن الهدف من التجارة الربح المادي، بل إشباع هواية السفر ورؤية العالم والتفاعل معه.

 

أصدر خمس عشرة رواية, منها: (المُداسة- تقودني نجمة- نواح الريق- سرة الكون- شرمولة- شكشوكة - يانا علي- عسل الناس- ملح- فرحة- وزارة الأحلام- علبة السعادة- تمر وقعمول- بوق). وأصدر مجموعات قصصية، منها: (حجر رشيد)، ومجموعة (حجر الزهر)، وترجمت بعض أعماله إلى الإنجليزية والإسبانية والفرنسية... التقته مجلة (الشارقة الثقافية)، وكان لنا معه هذا الحوار:

من مؤلفاته

¯ أنت في المنفى (ألمانيا) الذي اخترته بنفسك، وتعيش حياة مختلفة، ورغم ذلك تسحبك الذاكرة، والذكريات لكتابة ما مضى من حياتك في ليبيا، هل الذكريات تكتبك، أم أنك تملكها، وتوظفها لتطفئ هذا القلق الذي لا تستطيع الفرار منه؟

- لا يمكننا الهرب من الماضي، فهو يرافقنا في حّلنا وترحالنا، في نومنا ويقظتنا، يذكرنا بمكان عشنا فيه سابقاً، ومازلنا نحنّ إليه، وكي يعيش معنا لا بد من كتابته، الكتابة تحوله إلى حاضر ومستقبل، إلى شيء نراه أمامنا، إن لم نفعل ذلك نحس بأن جزءاً من حياتنا قد مات واندثر، ولم نفعل شيئاً لأجله كي نواسيه، أو نسعفه وننعشه، نكتب الماضي لنقول له إن حاضرنا مهما كان مريحاً وجيداً لن يجعلنا ننساك، فأنت أيضاً كانت لك مساهمتك الجميلة في تكويننا وفي منح حياتنا معنى.

الكتابة بالنسبة لدي تبدأ من الماضي أو ما يسمى بالذكريات، لتمر بعدها بالحاضر ثم المستقبل إن اتضحت صورته أمامي قليلاً، وإن ظلت معتمة فأحاول قدر الإمكان منحها بعض الضوء، لعلها تقبله وتتجاوب معه وتبتسم لي قليلاً.

¯ هل استفدت من إقامتك بألمانيا، وهل ساعدك ذلك في الإبداع؟

- نعم استفدت كثيراً، في ألمانيا الحياة منظمة، تجبرك أن تكون جزءاً منها وإلا رأيت نفسك نشازاً وسط آلة تعمل بدقة، ولذلك فلا تهدر الوقت وتحاول استغلاله في القراءة والكتابة والعمل، كثير من المشاكل والعوائق التي كانت تشغلني عن الكتابة في الوطن انتهت، ففي فترة قصيرة نسبياً ثلاث سنوات كتبت أكثر من خمسة كتب، لكن الكتابة لا تختلف من مكان إلى آخر، لا تغيرها الأمكنة المريحة أو المتوترة، إن كانت هناك موهبة وعمل وإصرار ستتطور الموهبة ونصقل وتكتب جيداً، وإن كانت الموهبة معدومة فحتى وإن وضعت في قصر أو في جنة فستخفق في عالم الكتابة، الأمكنة المريحة تحل لك مشكلة الوقت والكهرباء والطعام والإقامة والهدوء، لكن لا تفعل شيئاً أمام الشيء الأساسي في الكتابة وهو الموهبة، الأمكنة المريحة من صنع البشر، الموهبة هبة من الله.

¯ لديك علاقة جيدة بالروائي إبراهيم الكوني، حدثنا عن هذه العلاقة، وما أبرز المواقف التي حدثت على المستويين الإبداعي، والشخصي؟

- أعتز بإبراهيم الكوني وأحترمه لإخلاصه لمشروعه الأدبي وعدم النأي عنه أو الانشغال بأي مشروع آخر، وحقيقة استفدت كثيراً من قراءة كتبه حينما قررت دخول مجال الكتابة، فهو إضافة إلى موهبته الكبيرة كان قد درس الأدب في الاتحاد السوفييتي ونهل من عوالم تولستوي ودوستويفسكي، وجوجول، وتشيخوف، وجوركي، ودراسته للأدب جعلته يكتب بطريقة صحيحة لا تحتاج إلى محرر. لم أتعرف إليه شخصياً إلا أخيراً، عندما دعاني لزيارته في محل إقامته قرب مدينة برشلونة، وبقيت معه يومين أو ثلاثة اقتربت فيها من عوالمه وطقوسه عن كثب، قال لي في أوروبا ستعرف قيمة الوقت وتكتب أكثر وبشكل جيد، هو إنسان لطيف ومرح وكريم، يسدد لك ثمن الفندق والقطار ويدخل معك السوبر مارك لتتسوق على حسابه ما تحتاج إليه من، ويتحدث معك دون أن يسيء لأحد، يمكنك أن تتعلم منه أشياء جيدة كثيرة إن أحببت في المجال الإبداعي والإنساني، أعتبره هو والصادق النيهوم أفضل كاتبين أنجبتهما ليبيا، عندما تكون معه تشعر بالسعادة والألفة والحميمية، تشعر كأنه أب أو أخ كبير، لم نتحدث كثيراً، كان الصمت بيننا هو المتحدث؛ صمت الأندلس وليس صمت الصحراء الذي لا أفقه فيه شيئاً، تناولنا الطعام معاً وتجولنا على شاطئ البحر، نلتقي في الضحى وعند العشية نفترق، ليعيش كل واحد منا في محرابه الذي يحب. بعدها صارت بيننا مراسلات هو يكتب لي رسائل بأسلوب عذب جميل لا أعرف كيف أرد عليها، هو متمكن من فن كتابة الرسائل كتمكنه من فن الرواية، رسائله وكأنها مقاطع روائية، عرفني أيضاً إلى كتاب ومترجمين ألمان أفادوني عندما احتجت لهم في بعض الإجراءات الرسمية، عندما انتقلت للعيش في ألمانيا كان معي رواية (التبر) لإبراهيم الكوني، قرأتها من قبل لكن حينما أجدها أمامي في أي مكتبة أقتنيها ثم أهديها لأي صديق، أشعر بأنني أهدي ذهباً حقيقياً وليس كلمات من ذهب، يحدث معي الأمر كذلك مع روايات نزيف الحجر والمجوس والسحرة. حينما وصلت ألمانيا حاولت أن أنخرط في الوسط الثقافي الألماني لكن توقفت، وجدتهم لا يعاملوننا ككتاب إنما كمهاجرين يريدون أن يحكوا على تجاربهم التي جاءت بهم إلى أوروبا، ووجدت أيضاً أن كل المهاجرين واللاجئين قد تحولوا بقدرة قادر إلى أدباء وفنانين، ومن هنا تذكرت الكوني وقلت العزلة هي الأفضل، هي الحل، العزلة هي ألا تهدر الوقت في اللا جدوى، العزلة تعني قراءة أكثر، كتابة أكثر، تأملاً أكثر.

¯ هل استطعتَ من خلال أعمالك الروائية، والقصصية الإجابة عن سؤال الهوية بما أنك في المنفى الاختياري؟

- لا للأسف، أنا لا أكتب كي أجيب عن أسئلة، بل لا أسمح لأحد بأن يطرح على أسئلة باستثناء الشرطة أو الطبيب، فدائماً أكتب لأعبر عن مشاعري ولأعيش حياة خاصة بي أختارها ولا يتم اختيارها لي البتة.

 

¯ يمتاز الأدب الغربي، وخصوصا الألماني، باللغة المحددة، والمكشوفة، هل الكتابة بهذه الطريقة هي المناسبة للمرحلة التي تمر بها البلاد العربية؟

ـــ اطلاعي على الأدب الغربي كله تم عبر مترجمين، أي قرأته باللغة العربية، والمترجمون لا يمنحونك صورة جيدة للكتاب الذي يترجمونه، يمكنك القول إنني أقدر جهد المترجمين، لكن لا أثق في صحة ترجماتهم، انتقال الروح من جسد إلى آخر أمر صعب بل مستحيل، أحيانا أقرأ كتاباً مترجماً لأديب عالمي ولا يعجبني، بل أقول كيف نال هذا الأديب الشهرة وكيف تحصّل على جائزة نوبل مثلاً، والسبب بالطبع هو المترجم الذي فشل في نقل إبداع الكاتب الأصلي، حتى الكاتب إن ترجم كتابه بنفسه لن ينجح في جعل الكتابين بالقوة نفسها، أقول لك اللغة المحددة والمكشوفة تنفع مع الألمان؛ لأنها متوافقة مع أسلوب حياتهم، لكن نحن العرب لا بد من الثرثرة والحشو والمحسنات البلاغية كي يصل المعنى للقارئ إن وجد أصلاً، كل مجتمع وكل بلد له لغة تناسبه ويتفاعل معها، اللغة التي يفضلها الغرب لا تناسب الشرق هكذا أرى ، اللغة هي أسلوب الحياة وقد تتحول إلى كلمات وأصوات.

¯ المكان بنية أساسية في الرواية، هل تحققت بنية المكان الليبي في رواياتك، وقصصك؟

ـــــ رواياتي عبارة عن مجموعة أمكنة عشت فيها سابقاً وحالياً، المكان بالنسبة لي هو شرارة بدء كل عمل أكتبه. المكان وما عاشه من أحداث ساعدني كثيراً في الكتابة، أنا لا أبحث عن فكرة كي أنطلق في كتابة أي عمل، بل عن مكان عشت فيه سابقاً، أو أعيش فيه حالياً ومع المكان يأتي كل شيء، فالمكان كريم إبداعياً جداً، أعتبره هو الشخصية الرئيسية في كل أعمالي، وشخصيات البشر في أعمالي بمن فيهم أنا شخصيات هامشية مؤقتة ترحل إلى خارج النص ليبقى المكان مشعاً وحده، أمكنة كثيرة زرتها وعشت فيها وكتبت عنها حتى إن البعض يصنف أعمالي كأدب رحلات وليس قصصاً أو روايات، وسبب حضور المكان وهيمنته في أعمالي هو العيش متنقلاً من مكان إلى آخر، السفر كثيراً لرؤية العالم عن كثب والتفاعل معه سلباً أو إيجابا أو بطريقة محايدة، يعني حسب الحالة المزاجية التي أعيشها آنذاك، حياتي كلها انتقالات من مكان إلى آخر، طفولتي عشتها في ثلاث مدن طرابلس، الخمس، بنغازي، وأنشطتي الشبابية والرياضية وكذلك احترافي لتجارة الشنطة جعلني أعيش متنقلاً من مدينة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر، باختصار المكان هو كل شيء، المكان هو الذي يكتب وليس أنا.

¯ ما هي العوامل، والمؤثرات التي جعلت منك روائياً، وقاصّاً، ومَن ساعدك؟ وهل من يقرأ لك يشعر وكأنك تكتب سيرتكَ الذاتية تتخلَل أعمالك، وما هي طقوس الكتابة لديك؟

- هذا حقيقي، أنا أكتب سيرتي الذاتية من خلال شخصيات أخرى، كل الشخصيات تشعر بأن صوتي صاخب داخلها، أتحكم في حياتها كما أرغب، وحسب وجهة نظري، لا أسمح لأي شخصية بالانفلات لتعبر عن نفسها، لا بد أن تعبر كما أرغب أنا، عندما تعبر عن نفسها بحرية أشعر بأن هناك آخر يحركها وليس أنا مبدعها، في كثير من الأحيان تجد شخصياتي بدون أسماء وبدون ملامح، أخاف إن منحتها أسماء أو ملامح من أن تهرب مني، أن تهاجر عن وطنها الذي هو أنا، لذلك أحب أن يجد القارئ فيها نفسه، بأن يمنحها اسمه وملامحه أن وجدها تعبر عنه فعلاً، اسم مؤقت وملامح مؤقتة إلى حين ينتهي من قراءة الكتاب.

¯ هل استطاع النقد أن يضع تجربتك الإبداعية في مكانها اللائق كما يجب، وهل لدينا أزمة نقدية؟

- كثير من النقاد في ليبيا والوطن العربي وفي عدة دول أجنبية كتبوا عن تجربتي ، وتناولوها بشكل إيجابي وأشكرهم على ذلك، وكتاباتهم عن تجربتي استفدت منها لاحقاً، وكذلك منحتني بعض الرضا على نفسي، وأيضاً وضعتني أمام تحدٍ أكبر كي أجعل أعمالي الجديدة ذات جودة إبداعية، في البداية لم أكن أراجع أي عمل، لم أكن أهتم بعلامات الترقيم، حالياً أكتب بدقة وأراجع كل سطر أكتبه أكثر من مرة، المجتمع الذي أعيش فيه حالياً أثر فيّ، أسلوب حياته انعكس على كتاباتي.

 

¯ برغم أعمالك الكثيرة، لم نر لك حضوراً في الجوائز الأدبية العربية ، كيف ترى الأمر؟

ـــــ أشارك بين حين وآخر في الجوائز بمخطوطات لكن لا أوفق، لجان التحكيم الذين أغلبهم أساتذة جامعات لهم معايير خاصة لا بد أن تكون متوافرة في العمل الروائي حتى يرضون عنه، هذه المعايير أعترف أنها غير متوافرة في رواياتي، لم أغضب من أي خسارة ودائماً أقدم التهاني للفائزين، لعبي لكرة القدم في النادي جعل لدي روحاً رياضية، أتقبل الخسارة وأبدأ في اليوم الثاني التمارين من جديد، الخسائر ليست نهاية العالم، نهاية العالم أن تيأس، ذات يوم سيكون في لجان التحكيم من تعجبهم كتاباتي وسأفوز، الأمر تحصيل حاصل لا أكثر.

صديق في لجنة تحكيم قال لي إنهم يقرؤون كل عمل ويمنحونه درجة، والنص الذي يتحصل على درجات أكبر يفوز، من ضمن الدرجات هناك درجات تمنح على علامات الترقيم في النص، يعني يمكن استبعاد نص جيد، بسبب فاصلة أو قوس أو علامة تعجب أو استفهام لم ينتبه لها الكاتب، كذلك توجد لهجة عامية في رواياتي وكلمات غير مقبولة في الوسط المحافظ، إضافة إلى بعض الرؤى السياسية التي تضع المحكم في حرج مع الممول لو مرر العمل، في النهاية قيمتي الفنية أعرفها جيداً ومقتنع بها والقيمة المادية للجوائز لا تمثل لي أي أهمية.

¯ أخيراً، لماذا الكتابة؟ وهل تجد الفن والإبداع والكتابة ضرورة لك وللمجتمع؟ وهل تعتقد أنَّ الأدبَ والفنَّ لهما دور في تغيير الواقع، ويحافظان على الذاكرة الجماعية للوطن؟

- نعم الكتابة لها دور في تغيير المجتمع نحو الأفضل، القراءة ينبغي أن تتحول إلى ثقافة عامة، منذ الصغر ينبغي أن تكون علاقة الطفل بالكتاب كعلاقته بقنينة اللبن، المجتمعات التي لم تهتم بالكتب تظل متخلفة، في ألمانيا مثلاً وقت جائحة كورونا قفلوا كل شيء إلا المكتبات وأكشاك الصحف ومحلات بيع الزهور، في كل حديقة تجد مكتبة صغيرة بها كتب مجانية، في الحافلة أو المترو أو القطار، قلما تجد راكباً ليس في يده كتاب، حتى المتشردون منهم تجدهم يطالعون الكتب، في الأسواق الكبيرة تجد كتباً مجانية للقراءة، بل هناك بعض البيوت وضعت في مدخلها مكتبة صغيرة أنيقة يمكن لأي مار أن يأخذ منها كتاباً يقرؤه ويعيده. وبخصوص الحفاظ على الذاكرة الجماعية للوطن؛ أي نعم، فكل شيء منذ الأزل وصلنا عبر الكتب، لولا الكتب لوجد الإنسان صعوبة في حياته، الكتب اختصرت له الزمن طوت له عدة مراحل، جعلته ينجح ويصل إلى مستويات علمية راقية في كل المجالات مكنته حتى في الوصول إلى القمر والمريخ، وحالياً ليس أمامنا سوى الكتاب بشكله الورقي أو الرقمي، كي نواكب العصر ونتشبث به قليلاً لينتشلنا من الظلام.