لم يكن دخول معترك الإخراج الدرامي أمراً يسيراً على الرجل، فكيف بدخول امرأة إلى هذا الميدان الذكوري بامتياز، حيث كان المنتج للدراما يرفض أن يضع مقدراته المالية في يد امرأة- على حد زعمه – ما أثار خيبة وحزن المخرجة السورية أنيسة عساف التي تعتبر أول مخرجة سورية تتجرأ على قيادة الكاميرا وتوجيه عناصر العمل، وبث الروح في شخوصه ليتحركوا كما تشاء، وكما هي رؤيتها للرسالة الجمالية والفنية والثقافية التي يحملها النص، الذي كانت تضفي عليه الكثير من ألقها الخاص، من خلال فكرها المتنور وثقافتها الواسعة وتصوراتها الجديدة لدراما حديثة تتناسب وصعود انتشار الصورة وتوسيع دائرة المشاهدين.
أنيسة عساف اسم يعرفه السوريون والعرب، منذ أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي وحتى فترة قريبة جداً.. إذ عملت في البداية مذيعة شابة، في حينها كانت الدراما السورية محصورة بالمشاهد المحلي ولم تكن قد انتشرت بعيداً عن المحلية، مع ذلك ساعدتها موهبتها وإصرارها، إضافة إلى وقوف الكثير من الفنانين معها مثل دريد لحام، والمخرج علاء الدين كوكش، وفيصل الياسري، وسهيل الصغير، ومجموعة من الأدباء الكبار مثل زكريا تامر، ومحمد الماغوط، وممدوح عدوان، وعبدالعزيز هلال، وغيرهم، بعد أن آمنوا بمقدرتها وشجاعتها... وإذ تحدثني عن حوارها مع دريد لحام الذي استفزته بتمردها وبراءتها ناصحاً إياها بأن تبتعد عن هذا الميدان الخطير الذي يشبه الغابة لما فيه من ذئاب وحملان معاً، غير أنها طمأنته قائلة: لا تخف عليّ (لحمي مرّ).
بدأت مسيرة المخرجة عساف الإخراجية كمساعدة مخرج في قسم الدراما، لكن سرعان ما أوفدت من قبل الدولة السورية إلى ألمانيا للتخصص في الإخراج، حيث أنجزت أول عمل لها بعنوان (البذور الطيبة– 1969)، وكانت قصة للكاتب السوري عبدالله عبد من مجموعته ( مات البنفسج ) أعدتها وقدمتها للتلفزيون، فلاقت الاستحسان ولفتت إليها أنظار النقاد الذين كتبوا عنها في الصحف والمجلات السورية بإعجاب وتقدير، لانطلاقة أول مخرجة سورية تقف إلى جانب كبار المخرجين والفنانين ومنهم دريد لحام، ومحمود جبر، وصلاح قصاص، وطلحت حمدي وغيرهم، ما عزز حضورها ودفعها للاشتراك في مهرجان قرطاج، حيث نالت السعفة الذهبية عن أول أعمالها، فتصدرت الساحة الفنية مع العلم أن سيدات مخرجات عديدات كن في قسم الدراما ولكن كن يعملن كمساعدات مخرج او مخرجات للبرامج التلفزيونية لفترة طويلة، إلى أن انتقلن إلى الإخراج الفردي، ومنهن رويدة الجراح وهند ميداني وغيرهما، لكن عساف كانت غزيرة العطاء ومتميزة على الجميع لأنها لم تتأطر ولم تقبل القوالب الجاهزة، وعرفت كيف تتعامل مع الشخصيات المركبة والمعقدة لتجسدها وتنفخ فيها الحياة عبر الشاشة الفضية، حيث كانت مولعة بالنصوص الجريئة التي تحكي عن الواقع الاجتماعي والمادي والأخلاقي، كما تصدت في أعمالها للعادات والتقاليد البالية، وخاصة التقاليد التي كانت تكبل المرأة، وتحرمها من حقوقها كإنسان له حق العيش بكرامة، وحق الحب والعمل واختيار شريك العمر، بعيداً عن سنن الأهل وعاداتهم الصارمة.
كانت عساف مخرجة شجاعة لها أسلوبها الخاص، فأحب الفنانون التعاون معها والاشتراك في مسلسلاتها، التي لاقت صدى كبيراً بين الناس من خلال الاشتغال على الصورة وعلى الأبطال، لتوصل رسالتها ورسالة الكاتب من دون تشويه النص؛ فهي لا تحبذ خلق نص من نص آخر بل تفضل أن يبقى نص الكاتب ينضح بأسلوبه ويحمل الكثير من روحه، خاصة أنها تعاملت مع كبار الكتاب، كما ذكرت، ومنهم على سبيل المثال، عبدالله عبد، محمد الماغوط، خالد حمدي، عادل أبو شنب، هدى الزين، ممدوح عدوان، فؤاد شربجي، رياض عصمت، جان ألكسان، وديع إسمندر وغيرهم من كتاب النصوص الدرامية. وقد بدأت عملها بالأسود والأبيض ثم تحولت إلى اللون مع تحول التلفزيون إلى الألوان ما أدى إلى انتشارها السريع، حيث كثفت نشاطها التلفزيوني وعرفها المشاهد السوري والعربي وقدرها حق قدرها.
نالت الجوائز العديدة واستحقت التكريم في عواصم كثيرة.. ونتيجة لتميزها أرسلتها الدولة السورية إلى أمريكا للاطلاع على السينما الأميركية. كما أرسلت مرة أخرى حاملة معها فيلمها الوثائقي لتشارك في عيد الجلاء مع الجالية السورية الموجودة في نيويورك ما دفع عمدة المدينة لتكريمها ومنحها مفتاح المدينة.
إضافة إلى الإخراج التلفزيوني، عملت عساف في الإخراج المسرحي، فأخرجت العديد من المسرحيات منها (نبوخذ نصر.. فرّان حارتنا.. الرهان. والخوف والكبرياء..) وغير ذلك من مسرحيات كتبها مسرحيون معروفون.
من أعمالها التلفزيونية مسلسل، ودّي يا بريد، أبو الفداء، الأم الطيبة، الزيارة، صوت الودع، أوراق امرأة، الذي كان له صدى كبير واستقطب المشاهدين، التمثال، عن قصة لشتاينبك، الشجرة، لسليمان العيسى.. وآخر أعمالها كان مسلسل (الزيزفون) لوديع إسمندر.
عملت المخرجة عساف مع كبار النجوم السوريين من دريد لحام إلى منى واصف، سلمى المصري، رشيد عساف، جهاد سعد، سوزان نجم الدين، هالة شوكت، أحمد عداس، صلاح قصاص، والقائمة طويلة امتدت لعدة عقود... أضافت عساف الكثير من رؤيتها وخصوصيتها للدراما السورية، فكانت رقماً صعباً في تسلسل أرقام المخرجين الذين أبدعوا وأضافوا للدراما السورية التي وصلت إلى أوج شهرتها وتفوقها عربياً، إلا أن الحرب أصابت الدراما السورية في المقتل وأدت إلى تراجع الأعمال الدرامية، وبالتالي توقفت عساف عن العمل مثلها مثل غيرها من المخرجين والممثلين السوريين، الذين استطاعوا في فترة قصيرة زمنياً أن يتركوا بصمة تميزهم مع باقي النجوم العرب، سواء من حيث الموضوع أو الصورة أو الرؤية، مع مقدرة خاصة على اختيار الموضوع المناسب والنجم المناسب . ولعل ما ميز المخرجة عساف هو إيمانها بالعمل الدرامي القادر على إيصال رسالة ثقافية وأدبية وأخلاقية وترفيهية للمشاهد، الذي كان ينتظر أعمال هذه السيدة كونها امرأة وبالتالي تشده معالجتها للنصوص الاجتماعية والعاطفية، لتعكس رؤيتها المختلفة عن رؤية الرجل المخرج، الذي كان يحرص على إيصال صوته الذكوري وأفكاره التي يؤمن بها أولاً.
من هنا يأتي الدور الاجتماعي الخطير للمخرج في وطننا العربي، الذي تمنحه الكاميرا القدرة على إيصال معتقداته وقيم مجتمعه، التي يؤمن بها أو التي يرفضها. وسبق أن حدثتني المخرجة عساف، عن رفض مديري الإنتاج منحها فرصة الإخراج لمسلسلات كثيرة لعدم إيمانهم بقدرة المرأة المخرجة على التفوق ما يهددهم بالخسارة. لكن ثبت أخيراً أن عساف وغيرها من المخرجات العربيات استطعن أن يتفوقن، ويعطين الكثير من الخصوصية والتميز والجرأة للأعمال التي اشتغلن عليها وأثرن الجدل حولها.
إن المخرجة أنيسة عساف داغر ذات المسيرة الطويلة في العمل الدرامي، أغنت الشاشة بأعمال كثيرة متنوعة، وموزعة بين المسرح والمسلسلات الطويلة والقصيرة، لاتزال تسعى جاهدة لتمسك بنص مميز، تستطيع أن تقدمه للشاشات العربية بعيداً عن التكرار والشللية، التي تسود الأعمال الدرامية العربية في هذا الزمن الدرامي بامتياز.