نافذة الثقافة العربية

(ثلاثية المماليك) للكاتبة ريم بسيوني

رواية الحفيدة المستمدة من روايات الأجداد

الكاتب : اعتدال عثمان

المزيد من المقالات للكاتب
العدد الثاني والثلاثون Jun, 01 2019

تكتب ريم بسيوني، رواية تاريخية بوعي معرفي، وهندسي، وبحس بنائي أشبه ما يكون بتخطيط المدن الأثرية القديمة، وبتشييد العمائر ذات الطراز المعماري الفريد، مثل مسجد السلطان حسن الذي بني في عهد السلطان المملوكي الناصر حسن بن قلاوون (1356 -1363) ويوصف بأنه درة العمارة الإسلامية في الشرق كله، والذي يصبح علامة نصية محورية في الرواية تدور حوله، وترتبط به الأحداث السابقة واللاحقة على بنائه. فالأثر المعماري هنا ليس مجرد حجارة صماء، وإن تكن بديعة التكوين، تحمل دلالة دينية سامية، بل كثيراً ما كان التاريخ لسان حال هذه الآثار، المعبر عن رحلة الإنسان، وظله على الأرض الذي ينعكس في الرواية على عصر المماليك.

تختار الكاتبة شكلاً بنائياً مركباً للعمل الروائي الضخم (700 صفحة) فهناك الرواية الإطار التي تبدأ في زمننا الحالي، وهناك الحكايات الثلاث التي تشكل المتن الروائي. توظف الكاتبة الرواية الإطار كحيلة سردية تمكن الراوية الأساسية المعاصرة من استعادة محتوى أوراق جدها، العالم الأثري الذي اكتشف - مع أستاذه - اسم مشيد العمائر، وكان مجهولاً إلى وقت قريب، وهو محمد بن بيليك المحسني، مصمم عمارة مسجد السلطان حسن وبانيه. 

والجد أيضاً هو الباحث المدقق الشغوف بتسجيل تاريخ تلك الحقبة، وتشعب أحداثها، وتشابكها، وتعدد شخوص المشاركين فيها، ليس بوصفها وقائع تاريخية تعتمد على الوثائق التي تعطي الحدث مصداقيته فحسب، بل إنه شغوف أيضاً بالحضور الإنساني، واقتناص إيقاع الحياة الحافل بالعلاقات بين البشر، كما هو حافل أيضاً بوقائع الحروب، وتحول الولاءات تبعاً لصراعات السلطة والثروة والنفوذ من جانب من يملكون ويحكمون، مقابل المظالم والمآسي التي تعاقبت على أهل البلاد. كذلك تربط الرواية الإطار أرجاء النص من خلال حضور الصوت السردي لراويتها الأساسية في مطلع كلٍ من الحكايات الثلاث، كما تربط مفاصله الزمنية الممتدة من عام (1309 إلى 1522)، عقب الغزو العثماني لمصر عام (1517)، وكذلك المكان الذي يتراوح بين القاهرة ومدينة قوص.

رواية الحفيدة المستمدة من رواية الجد الباحث الأثري، والتي تستكملها بشغف وغواية البحث والاستقصاء الموروثة، والنابعة من الذات في آن، تتكون من ثلاث حكايات كما ذكرت، أو في الحقيقة ثلاث روايات، منفصلة ومتصلة، يحمل كل منها عنواناً عاماً تندرج تحته أبواب وفصول فرعية ومتشعبة، فكأننا نجوس معها في كل حكاية أرجاء مدينة أثرية أشبه بمتاهة، يتداخل فيها التاريخي والمتخيل، مدينة ذات أحياء وبيوت وأسواق وطرقات تفضي لبعضها بعضاً، وتستقل عن بعضها بخصوصيات الأحداث التاريخية، لكنها تتصل أيضاً بوشائج حيوات عاشت في بر مصر من المماليك المجلوبين من شتى بقاع الأرض، وسلالتهم المعروفة في كتب التاريخ بـ (أولاد الناس)، وهي السلالة التي ولدت في مصر، وعاشت بين أهل البلاد، وذابت خصائصهم الوراثية الأولى تحت شمس سمائها وامتزجت بترابها، وأصبحوا - وفقاً لهذه الرؤية - جزءاً لا يتجزأ من نسيج الحياة المصرية خلال هذه الحقبة الممتدة.

تعتمد الرواية إذاً، مرجعيتين متضافرتين هما مرجعية متصلة بالحدث التاريخي، ومرجعية تخييلية مقترنة بالحدث الروائي الذي يقدم من خلال وجهات نظر مختلفة ومتنوعة تتراوح بين المماليك أنفسهم، وسلالتهم من (أولاد الناس)، وأهل البلاد الذين تتوزع أصواتهم السردية بين الأعيان، وهم كبار التجار من أهل البلاد، ورجال الدين من المشايخ والقضاة، وصولاً إلى عموم الناس أو ما يطلق عليهم العوام. وتستطيع الكاتبة الموازنة بين وجهات النظر المتباينة على امتداد السرد في معظم الأحيان، عدا الانحياز المضمر إلى (أولاد الناس)، يبدو من عتبة النص الأولى، الممثلة في عنوان الرواية، وما يحمله من إشارة دالة على الرؤية المركزية في الرواية.

لا تنكر هذه الرؤية وحشية حكم المماليك، واستبدادهم، وتآمرهم، واستغراقهم في صراعات القوة طلباً للنفوذ والثروة على حساب أهل البلاد الذين عانوا الظلم والاستغلال والتهميش، سواء طوال حكم المماليك أو بعد الغزو العثماني، وذلك على أساس أن وجودهم على رأس الحكم يضمن الدفاع عن البلاد ضد الصليبيين والمغول، لكنها لا تغفل أيضاً التحول الدراماتيكي في نفوس المصريين نتيجة إحساسهم بالخطر العثماني، وانحيازهم إلى طومان باي، الأمير المملوكي الذي تصدى لهذا الخطر بمساندة شعبية قوية، جعلت مصر كتلة واحدة ضد الغازي، لكنه هُزِم بسبب خيانة مملوك آخر، هو خاير بك الذي أطلق عليه المصريون خاين بك، وهي الخيانة التي تخلق تجاوباً بين النص الحاضر في الرواية، والنصوص الغائبة، بما يستدعي خيانة أخرى، كانت سبباً لاحقاً في هزيمة عرابي، واحتلال الإنجليز لمصر عام (1882). 

وإذا كانت الرواية ترتبط بالتاريخ، فإنها تعيد قراءته لتكشف عما لم يذكره هذا التاريخ نفسه في كتب المؤرخين، وتلجأ إلى استنطاق كبارهم مثل المقريزي، وابن خلدون، وابن إياس كشخصيات روائية مشاركة في الحدث، ومعقبة عليه. كذلك يتجلى الجانب التخييلي في كشف أبعاد الذات الإنسانية لدى الشخصيات الروائية المتعددة التي تجيد الكاتبة رسم دراما حياتها، وصراعها مع واقعها المتقلب بين الحرب والحب وصراع القوة وقسوة المصائر.

وعلى خلفية الأحداث التاريخية، وما يتماس بها من مفاهيم وبنى اجتماعية وسياسية وثقافية كانت سائدة في تلك الفترة، تبرز في الحكاية الأولى قصة زينب المصرية، والأمير المملوكي محمد الذي يتبين القارئ لاحقاً أنه والد مشيد مسجد السلطان حسن. كما تنسج الحكاية الثانية قصة الشيخ عمرو - قاضي قوص - وضَيْفَة، الفتاة المنسوب إليها السحر والتعامل مع الجن. وفي الحكاية الثالثة تتجسد قصة حب الأمير المملوكي سلار الذي تخفّى كواحد من عامة المصريين لكي يشارك في صد الغزو العثماني، وهند ابنة المؤرخ الشهير ابن إياس، وهو أيضا من (أولاد الناس). 

تبني الكاتبة شخصياتها الروائية، على أساس الصراع الدرامي داخل الذوات المروي عنها بين نوازع متعارضة، مثل تكوين المقاتل لدى الأمير محمد في الحكاية الأولى الذي لا يعرف إلا لغة السيف، لكنه مؤرق أيضاً بالحق والواجب، أو القاضي عمرو، في الحكاية الثانية، الممزق بين العدل والتقوى من جانب، والهوى الذي امتلك عليه نفسه من جانب آخر، أو سلار، المتخفي في الحكاية الثالثة الذي يجاهد نفسه كأمير مملوكي من الطبقة العليا الحاكمة، فيما يجاهد غزو البلاد التي انتمى إلى أرضها.

 أما الشخصيات النسائية في الرواية، فتتميز كلها بقوة الإرادة والعزيمة التي لا تقهر، فهن صاحبات منطق وحجة، لا يوقفهن شيء عن تحقيق مرادهن، وهن كذلك يقعن في صراع مع أنفسهن، بين الكراهية والنفور من الاستتباع والسبي كجاريات في قصور المماليك، خصوصاً زينب وهند، لكنهما تتحولان إلى حالة عشق آسر لزوجيهما المملوكين، تجتاح منهما الحواس والعقل والروح. أما ضيفة فصراعها من نوع آخر، فهي التي بادرت بعشق الشيخ القاضي، وذهبت إليه في محبسه متخفية دون أن يعرفها، وكأنه التقى بها في حلم، لتعاني بعد ذلك، إلى أن طهرها الحب من جديد.

وفي غمرة الحماس لهذه النماذج النسائية النابضة بالقوة، وحب الحياة قد يلمح القارئ أن وعي بعضهن يفوق تكوينهن بحكم البيئة الاجتماعية، وصغر السن، وقلة الخبرة الحياتية مثل ضيفة التي كانت في مطلع الصبا، لكن (عيناها تريان ألواناً كثيرة ممتزجة بقسوة رسام مبدع لا يأبه بكسر كل القواعد). كذلك بائعة الملح في الحكاية الثانية التي تمتلك حكمة، وبصيرة، وفهماً للطبيعة البشرية فوق المعتاد في بيئة ريفية بسيطة مثل مدينة قوص.

يتسم إيقاع السرد في الرواية بالنفس الطويل، والتداخل بين وشائج تربط التاريخي بالروائي، عدا الحكاية الثالثة التي تتسم بإيقاعاتها السريعة المناسبة لإيقاع الأحداث إثر الغزو العثماني، وتتمثل في شهادات، أشبه بلوحات قلمية قصيرة متتابعة، ترويها ثلاثة شخوص روائية بضمير المتكلم، وتقدمها لابن إياس كي يسجلها في كتابه الشهير (بدائع الزهور في وقائع الدهور).

اللغة في الرواية راقية ورائقة، وكثيراً ما تقترب من لغة الشعر، كما تنقل بحساسية تعدد الخطابات الجامعة بين الديني، والتاريخي، والفلسفي، والاجتماعي، والحكمة المتقطرة من التجربة الإنسانية في كل زمان ومكان.