من أروع ما في مرحلة تسنّم بغداد المركز العلمي والفكري للعالَم، كان تعدد مصادر هذا المنتج وتنوّع منابعه؛ هو عربي الصفة واللغة بمرتكز أساسه التعددية.. وأيامها شارك الأمراء والوزراء والأعيان في تقديم الدعم للنشاط الفكري والعلمي، لتأسيس المكتبات والمشافي والمراصد، والمرافق العلمية عموماً.

هذه المقالة ليست عرضاً لكتاب الدكتور رشدي حنفي راشد المؤلَّف بالفرنسية؛ منافحاً فيه عن الدور المؤسس للثقافة العلمية العربية في علوم عصرنا الحالي، ثم جاءت ترجمته العربية (علم الهندسة والمناظر في القرن الرابع الهجري) في العام (1996).. بل هي عرض لكشفٍ فاصل حققه العلاّمة رشدي من بين كمّ عظيم من الكشوفات، التي أزال بها التراب عن تبر تاريخ العلوم عند العرب. وحريٌّ بكل متابع ومهتم أن يقرأه ليُفاجأ فعلاً بما قدمه العرب للعالم.
حقّق رشدي رسالتين مكتشفتين (حديثاً) لأبي سعد/ العلاء بن سهل، من القرن العاشر الميلادي: (الآلات المحرقة) و(البرهان على أن الفلك ليس في غاية الصفاء)، وكتيبه (في خواص القطوع المخروطية الثلاثة)، ليجد أن ابن سهل قد طرح سؤالاً لم يسبقه إليه أحد: (الإشعال لا بالانعكاس «المرايا» بل بالانكسار «العدسات»، وبه لم يعد الانعكاس موضوع الدراسة الوحيد في البصريات، بل انضم إليه الانكسار، وجهازان: العدسة المستوية المحدبة والعدسة محدبة الوجهين).
لقد أثبت العالِم رشدي عبر دراسة رياضية ممتعة ودقيقة، أن قانون (سنيللوس) قد وضعه العلاء بن سهل، وليس من نتاج علماء نهاية القرن السادس عشر الأوروبيين، وأنه ميّز الأوساط بكميتها، ثم بـ(نسبة ثابتة) لم تكن في الواقع سوى عكس قرينة الانكسار للوسط بالنسبة إلى الهواء!
إذاً؛ لقد استحدث ابن سهل؛ المهندس المزوّد بقوانين البصريات الهندسية، والمتكئ على الخصائص البصرية للمخروطات، (علم الانكسار) العربي ووضع أجهزته (العدسات البلّورية)، وعرض لطرق تصنيع هذه الآلات المحرقة، عبر دراسة مذهلة لهندسة القطوع المخروطية الثلاثة: المكافئ والناقص (الإهليلج) والزائد، مدعمة برسوم توضيحية معقدة ومتقنة.. فكان السلف لابن الهيثم قبل نصف قرن منه؛ والذي تعد أعماله أساسية عند الأوروبيين، بكونه من قام بأول إصلاح لعلم المناظر منذ الهيلينستيين: المرايا المُحرقة، فالنظرية الهندسية للعدسات، فـ(علم انكسار) الضوء/ المرايا والكرات والكواسر.
ويأتي المؤلف على دورٍ لهندسيين نوابغ معاصرين لابن سهل (القوهي والصاغاني والسجزي...) عززوا أعماله بحساب مساحات السطوح المنحنية، وأحجام المجسمات الناجمة عنها كيما يتم تحديد مراكز الثقل فيها؛ مولين اهتمامهم للخصائص البصرية للمخروطات.
ويوضح اكتشافه قانون الانكسار، وأيضاً تطبيقه مبدأ العودة المتطابقة للضوء، مقدار المسافة التي قطعها ابن سهل بعد (المناظر) لبطليموس؛ فهو صاغ بهذين القانونين نظرية هندسية للعدسات تعدُّ أولى النظريات في هذا المجال، ومن المستهجن أن بقي إسهامه العظيم هذا طيّ التجاهل من قبل المؤرخين الغربيين؛ إيماناً منهم بانتماء دراسات كهذه إلى (عصر لاحق بعيد).. ثم هم لم يلقوا أنظارهم لموضوعاتٍ أكثر تقدماً، درسها بعده ابن الهيثم في الكواسر والعدسات في إطار (6) قواعد مدرجة في الكتاب تدهشنا دقتها ووضوحها العلميان.
وبمضي نصف قرن يوسع علم الانكساريات مجاله، ليصبح مع ابن الهيثم ذا مكانة مختلفة تماماً؛ وبتعبيره هو: (بضرورة تفاعل الرياضيات والفيزياء) لدراسة الكواسر والعدسات. وتعدّ دراسته المرآة الكروية المحرقة، قد تجاوزت بعيداً كل ما سبقها من أبحاث؛ من ديوقليس إلى الكندي.. أما معالجته الكرة المحرقة، فإنها تشبه ما درسه سلفه ابن سهل من عدسة محدبة الوجهين، وزائدية، لكنها أكثر صعوبة بحيث يثير فيها ظاهرة الزيغ الكروي، علاوةً على إصلاحه هذا العلم؛ فاصلاً بوضوح، وللمرة الأولى في تاريخ البصريات، بين شروط انتشار الضوء وشروط رؤية الأشياء.
يعالج ابن الهيثم، بوصفه فيزيائياً باختلاف عن ابن سهل الهندسي، الكاسر الكروي بصلةٍ مع الرؤية، متناولاً انتشار الضوء داخله والصورة وموضعها؛ ما يقوده إلى تحديد جديد للعلاقات بين شروط الإبصار وشروط انتشار الضوء.. وهنا يتفق جميع الباحثين على اعتبار رسالة ابن الهيثم، في الكرة المحرقة إحدى قمم البحث البصري الكلاسيكي؛ بمقدماتها العلمية عالية الأهمية، إحداها: زاوية الانحراف في الزجاج أصغر من نصف زاوية السقوط وأكبر من ربعها!
وسيدفع كمال الدين الفارسي لاحقاً، البحث الانكساري لسلفه ابن الهيثم نحو مزيد من الدقة، ويفيه حقّه وامتداده نحو الاكتمال. ففي تعليقه على الكرة المُحرقة لابن الهيثم، يقدم الفارسي نصّاً يعتبره المؤرخون أحد أكثر النصوص تأثيراً في تاريخ البصريات؛ إذ نجد فيه بعض التمثيلات الدالية، وقبل تطور نظرية الدوال، عرّفها بمقولات حول العلاقات بين زوايا السقوط والانحراف والانكسار!! فهذا الفيزيائي، والرياضي، كان يبحث عن (خوارزمية) تترجم الارتباط الدالي بين زوايا السقوط وزوايا الانحراف؛ كي يستنتج بالتالي قيم الانحراف لأي سقوط كان بين وسطين محددين.. علاوة على أبحاثه الرئيسة حول قوس قزح والهالة، وإبداعه في نظرية الألوان.
ويلقي الكتاب الضوء على شأن في الهندسة نعلم أنه لم يتطرق إليه أحد سابقاً، يتعلق بنظرية الإسقاطات؛ فنتيجة لازدياد الطلب الاجتماعي من قبل الفلكيين والمنجمين والأطباء، نشأت مهنة جديدة هي (الإسطرلابيون) بغية إنشاء إسطرلاباتهم، وبالتالي تضاعفت الأبحاث حول الإسقاطات؛ وانكبّ الرياضيون أمثال الكندي وبني موسى والخازن وإبراهيم بن سنان والسجزي، على دراسة الرسم الهندسي للأشكال على الإسطرلاب، فعرض الفرغاني أول نظرية في التاريخ عن الإسقاط التسطيحي، وألف القوهي، وهو معاصر لابن سهل، رسالة حول صنعة الإسطرلاب، تبدأ بفصل عن نظرية الإسقاطات بهدف حل المسائل الهندسية، التي يمكن أن تبرز في أثناء صنعه.. ويأتي سبب ليجعل ابن سهل مرشحاً لسد ثغراتها، وليصمما معاً فصلاً من الهندسة جديداً يدرس الإسقاطات، وإسقاطات الكرة خصوصاً، منساقين إلى تعريف مفاهيم جديدة هي الإسقاطات الأسطوانية والإسقاطات المخروطية في أول ظهور لها.
هكذا نكون قد شهدنا بروز شخصية كانت مجهولة حتى الأمس القريب: ابن سهل المهندس والعالم؛ موطّئاً لظهور سلفه ابن الهيثم. إن أهمية إسهام هذه الشخصية في علم الانكساريات، لشاهدة على عدم علمنا بتاريخ البصريات، فعلاوة على ألق إنجازه الرياضي الهندسي، واشتغاله في نظرية المخروطات، وبمشاركته المؤثرة في الهندسة الإسقاطية للكرة، أنشأ روابط قوية ما بين البحث الهندسي، والبحث في البصريات وعلم الفلك، والخصائص البصرية للمخروطات.. ولم ينحصر هذا المظهر التطبيقي للهندسة بابن سهل، بل شمل أعمال هندسيين معاصرين له، كالبوزجاني والقوهي والصاغاني.. ويزداد هذا المنحى لاحقاً ليتجسد بصورة أساسية ورئيسة عند ابن الهيثم.
وهذه الدلائل تشير كلها إلى أن البحث الهندسي لابن سهل، انتشر في قلب حاضرة علمية ناشطة وحاشدة في القرن الرابع الهجري؛ وهي سماتٌ توحي خصوصاً بالوسط الأوروبي، ولكن بعد (7) قرون من بغداد.