وصلت إلى مرحلة من العمر، أحاسب فيها نفسي باستدعاء الصفحات التي طُويت دون أن تضم وقفات طويلة أمام أناس عرفتهم، وكان من واجبي الكتابة عنهم بقدر من التؤدة، نظراً لما تمثله بالنسبة إليّ من قيمة، ومِنْ هؤلاء الدكتور رشاد رشدي.
أهدتني زوجتي كتاباً صادراً في عام (1993) عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وهو العدد الثاني عشر في سلسلة عاصرت تدشينها في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، وكانت تحمل اسم (نقاد الأدب) ويشرف عليها صديقي الناقد الرائع الدكتور علي شلش.
ولم تكن زوجتي تعلم قيمة هذا الكتاب بالنسبة إليّ؛ وأنه عن أستاذي الناقد والكاتب المسرحي الكبير الدكتور رشاد رشدي، صاحب مسرحيات: (الفراشة)، و(لعبة الحب)، و(نور الظلام)، و(رحلة خارج السور)، و(حبيبتي شامينا)، الذي كان عميداً للمعهد العالي للفنون المسرحية الذي درست فيه الأدب المسرحي والنقد بين عامي (1973 و1976)، ثم مديراً لأكاديمية الفنون، ورئيساً لتحرير مجلة (الجديد) التي كانت تصدر في سنوات السبعينيات. أما مؤلف هذا الكتاب؛ فهو أستاذي أيضاً الدكتور نبيل راغب، أستاذ الأدب الإنجليزي، والعميد الأسبق للمعهد العالي للنقد الفني، والكاتب الروائي، الذي قدمت السينما العديد من أعماله، وصاحب (موسوعة أدباء أمريكا).
كان نبيل راغب هو السكرتير الصحافي للرئيس الأسبق أنور السادات، وقد دعاني ذات يوم لزيارته في مكتبه داخل بيت السادات المطل على النيل في الجيزة، ليتيح لذاكرتي الاحتفاظ بهذه الأجواء.
وأتصور أن وجود نبيل راغب في هذا المنصب، أزعج أستاذه رشاد رشدي.. ولم تستقم العلاقة بين التلميذ وأستاذه، إلا بعد موافقة نبيل راغب على أن يحمل مجموعة من مؤلفات رشاد رشدي، ليقدمها هدية للرئيس السادات، ويُدعِّم الإهداء بتوضيح أهمية رشاد رشدي على المستوى الإنساني والأكاديمي بالنسبة إلى تلاميذه، وهو ما جعل السادات يوافق على تحقيق رغبة رشاد رشدي بأن يسمح له بزيارته. وقد أسفر هذا اللقاء عن صدور القرار الجمهوري، بتعيينه مستشاراً للرئيس لشؤون الكتاب والمسرح والموسيقا.
وعلى الفور فكر رشاد رشدي في استحداث عيد للفن في الثامن من أكتوبر من كل عام، وفي هذا الاحتفال، يمنح الرئيس السادات درجة الدكتوراه الفخرية وشهادات الجدارة من أكاديمية الفنون لرواد المبدعين.
وقد نجح رشاد رشدي في إقناع السادات بإصدار قرار منه بجعل أكاديمية الفنون، مؤسسة جامعية يتم تعيين رئيسها بقرار جمهوري.
وكثيرون هم من يختلفون مع رشاد رشدي، بسبب اختلاف انتماءاتهم السياسية، بل ويعتبر بعضهم أنه هو الذي كان سبباً في خروج الدكتور لويس عوض من التدريس بجامعة القاهرة، والذي كان رئيساً لقسم اللغة الإنجليزية وآدابها بكلية الآداب، ليحل هو محله في رئاسة هذا القسم في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، ويستمر في هذا الموقع نحو عشرين عاماً متخذاً منه بيته، الذي رفض أن يبرحه حتى إلى عمادة هذه الكلية.
ولكن كثيرين أيضاً هم من يدركون قيمة رشاد رشدي، كواحد من أوائل النقاد الذين قدموا المدرسة الحديثة في النقد، التي ركزت على العناصر الموضوعية والتحليلية في تناول العمل الفني. ولا بد أن نسجل له هذه الريادة، لا سيما وأن النقد في مصر والوطن العربي كان يتراوح بين التفسير الاجتماعي للعمل الفني، أو التعبير عن شخصية الأديب وحياته الشخصية، ما كان يؤدي بالناقد نفسه إلى أن يقدم انطباعاته الشخصية، من واقع تجربته الذاتية على أنها نقد وتحليل. وقد قدّم رشاد رشدي في دراساته النقدية، وفي محاضراته وندواته، هذه المدرسة النقدية الموضوعية التحليلية, سواء على مستوى التنظير أو التطبيق. ومما لا شك فيه، أن تلاميذه انتشروا في أرجاء الجامعات العربية والأجنبية حاملين الشعلة ذاتها.
وفي هذا الكتاب، الذي بين يدي، يشير الدكتور نبيل راغب، إلى أن هذا الرجل كان يجيد صنع التلاميذ، ليس داخل قاعات الدرس فحسب، وإنما بعد أن يبرحوا الحرم الجامعي.
ويقول نبيل راغب تحت عنوان
(صورة من قريب): كان يحمل بين جوانحه قدراً من الأبوة لا ينضب. وكانت فرحته لا توصف، عندما يكتشف المواهب المبكرة في بعض أبنائه، وكأنه وجد كنزاً، بل لا تتوقف فرحته عند حد الاكتشاف، وإنما تستمر وتنمو دون حدود، وبأسلوب عملي يدفع بابنه الموهوب إلى آفاق لم يكن ليحلم بها. فمثلاً عبّر عن سعادته بكتابة تلميذه الدكتور محمد عناني مسرحية (البر الغربي)، وهو بعد لم يتجاوز الرابعة والعشرين من عمره، فدفع بالمسرحية إلى العرض على خشبة (مسرح الحكيم) ونالت إعجاب النقاد، ووجد عناني اسمه مذكوراً بين كبار كتاب المسرح المصري، وهو لايزال يخطو خطوته الأولى.. فلم يكن رشاد رشدي يربط بين الموهبة والسن والأقدمية، وكانت أكبر محنة في نظره تتمثل في ترك موهبة مبكرة لتذوي وتموت دون رعاية.
كذلك فتح صفحات مجلة (المسرح)، التي كان يرأس تحريرها منذ عام (1962) وحتى (1967)، أمام الشباب النابه الموهوب؛ سواء من تلاميذه في الجامعة أم من النقاد الواعدين من خارجها، ولم يهتم كثيراً بالأسماء اللامعة في ذلك الوقت، فقد رأى أن بريق بعضها كان مزيفاً.
ولذلك تألقت على صفحات مجلة (المسرح) أسماء شباب مثل: سمير سرحان، ومحمد عناني، وعبدالعزيز حمودة، وفاروق عبدالوهاب.. وغيرهم من الشباب الذين لم يتجاوزوا العشرين إلا بعامين أو ثلاثة على أكثر تقدير.
وكانت (المسرح) هي المدرسة العملية، التي تخرج فيها هؤلاء النقاد والدارسون، الذين أسهموا بقسط وافر في قيادة المسيرة الثقافية والأدبية والنقدية في مصر وخارجها. وعندما كان يبعث بتلاميذه النابهين في بعثات أو منح إلى الخارج، كان يوصيهم بمراسلة مجلة (المسرح) وإمدادها بآخر تطورات الحركات المسرحية, سواء في أوروبا أو أمريكا. وبالتالي كان يضرب أكثر من عصفور بحجر واحد، لأنه بهذا يضمن مراسلين بالمجان لمجلة ذات ميزانية محدودة، وفي الوقت نفسه، تفتح المجلة نوافذ على آخر تطورات الحركة المسرحية في عواصم المسرح العالمية، ويدفع بمراسليه إلى التخلي عن الحياة الأكاديمية التقليدية المحدودة التي تحصر همومها في الدراسة والحصول على الدرجة العلمية، ثم العودة إلى مصر لشغل منصب مرموق، فقد جعلهم يعيشون الحياة الثقافية والأدبية والمسرحية في أعمق أبعادها العملية، مثلما فعل هو من قبل أثناء بعثته العلمية.
ولكم كان رشاد رشدي سعيداً عندما عاد سمير سرحان من بعثته حاملاً شهادة الدكتوراه، وهو بعد في السادسة والعشرين من العمر من جامعة (إنديانا)، في ذات الوقت الذي عاد فيه عبدالعزيز حمودة حاصلاً على الدكتوراه من جامعة (كورنيل) وعمره (29) عاماً.
وقد أوضح الدكتور نبيل راغب، أنه اعتاد لقاء الدكتور رشاد رشدي صباح كل يوم جمعة بحديقة (جروبي) بوسط القاهرة، وذات يوم وجد السعادة بادية على وجهه، وعندما استفسر منه عن السبب أجابه: (غداً سيجتمع مجلس الكلية للموافقة على تعيين سمير سرحان وعبدالعزيز حمودة على درجة مدرس بقسم اللغة الإنجليزية وآدابها).
ويوضح المؤلف أن رشاد رشدي تخرج عام (1935) في جامعة فؤاد الأول، وعمل مدرساً للغة الإنجليزية بمدرسة الأورمان النموذجية بالجيزة، وسافر في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي في بعثة للحصول على الدكتوراه من جامعة (ليدز) تحت إشراف البروفيسور (بونامي دوبريه). كما يشير إلى أنه لم يكن مجرد طالب بعثة عادي، بل كان عقلاً من الشرق، راح يتأمل منجز الغرب لينقله لمجتمعه بتوقيعه هو.