نافذة الثقافة العربية

قصائد الهايكو.. سيرة ذاتية للطبيعة

الكاتب : د. حاتم الصكر

المزيد من المقالات للكاتب
العدد السادس والتسعون Oct, 01 2024

-١-

من شذرات الشاعر صلاح فائق ذات البيت الواحد قوله في مساخرة مقصودة: (الهايكو حساء ياباني بتوابل عربية..). إنه يربط بين الجذر الياباني لنشأة فن الهايكو الشعري، والنسخة العربية منه، فيرى أنه طبخة شعرية قادمة من منشئها الياباني، ولكن بإضافة توابل عربية لها. فهل كان الشاعر يرمي إلى التعبير عن إفساد الطبق الهايكوي، الذي تميز بقصره وانحصاره في مواضيع الاحتفاء بالطبيعة، ورصد مظاهرها المتصلة بالإنسان والبهجة الشعورية والبصرية التي تربطه بها؟

لقد أحسست بالمشاركة لما كتبه الشاعر في ملاحظته تلك، ورحنا نقلِّب أبعادها، فوجدناها تنطبق على كثير مما يُنشر تحت مسمى ذلك النوع الشعري المجتلَب لتربة الشعرية العربية، وقصيدة النثر خاصة، كونها تتميز بسعة تتيح التعبير عن تلك الملاحظات البصرية والشعورية إزاء الطبيعة، وبميزة شكلية تنبَّه لها منظّرو قصيدة النثر الأوائل؛ هي القصر أو الكثافة والتركيز.

ولكن الهايكو ليس هو الشكل الوحيد المعبِّر عن تلك الكثافة المتوخاة، فثمة تجارب شعرية عربية اعتمدت التكثيف باستخدام الشذرات الشعرية والومضات، أو التوقيعات والمقطَّعات وقصائد البيت الواحد. لكنّ ترحيل الهايكو من منبته وتعديل ميزته الأساسية لإسباغ حداثة أو معاصرة عليه، سلخته عن أصله، وباتَ مصطلحه ومفاهيمه بعيدة عن نوعه المعروف. ولعل جهد العرب المدافعين عن جوهر الهايكو وصلته الرحمية بالطبيعة موضوعاً، والاقتصار على ما فيها وما حولها، يصب في اتجاه الدعوة للحفاظ على هذا النوع الشعري، ورفض تطويعه لما ليس فيه.

ويمكن للشعراء المهتمين بالإيجاز والكثافة في التعبير، وهجران الترهل والإسهاب والاستطرادات البلاغية المملة، أن يستخدموا الأشكال المتاحة التي ذكرنا بعضها، والحفاظ على هذا النوع الشعري الطريف كواحد من سبل تمجيد الطبيعة، ضدّاً لما تتعرض له من تدمير، يوازي ما تفعله الحروب والاحتلالات والعنصرية من تدمير للبشر وحضاراته ومستقبله. وبعودة لما لخّص به صلاح فائق ما رآه في قصائد الهايكو العربية نقول، إن تلك التوابل المضافة قد أخرجت الهايكو من حيّزه الفني، وآن لنا أن نردَّه إلى منبته.

 

-٢-

بقدر تعدد نصوص الهايكو والمنابر المعنية بنشره، قامت دراسات كثيرة يمكن وصفها بأنها تنزع لتأصيل النوع، وإمكانات استثماره عربياً، دون استخدام تلك التوابل البلاغية والهيجانات اللغوية.

ومن الإصدارات الأخيرة في مجال النصوص الهايكوية المقترنة بمقدمات تبرر استخدامه، نقف عند الشاعر عذاب الركابي، وهي تجارب أخرى للركابي الذي عكف على كتابة هذا النوع، وانصرف لها في أكثر من عمل منها: (سوناتات الماء والزنابق، وليست العصافير من سلالة الرياح، ورسائل المطر، وما يقوله الربيع)، وكلها مقترنة بوصف جانبي يقدمها بأنها (هايكو عربي)، كما يستطرد معرفاً بالهايكو ومزاياه، مشدداً على توسيع الشعر العربي للهايكو، ليكون تأملاً وليس نظراً مجرداً في الطبيعة. وفي كل أعماله نجده ناظماً لقصائده في الطبيعة حصراً، تعبيراً عن اعتقاده بالأصل الفني والجمالي لهذا النوع الشعري، لكن ما صرح به العنوان الجانبي لديوانه الأخير (في ذاكرة الأزهار هايكو عربي)، يحيلنا إلى إصرار الشاعر لجعل الهايكو ذا نكهة شعرية عربية، سيحاول شرحها للقارئ في (توطئة) ديوانه النثرية، وإن تغلفت بنبرة شعرية في الوصف وتحليق بلاغي مفرط في التجريد، مع الإحالة إلى الهايكو وثوابته الفنية والجمالية. فهو يمجّد الطبيعة بدءاً، معتبراً الهايكو (سيرة ذاتية للطبيعة) كما يقول، بل يتخيل الشاعر مجرد ناقل لما تهمس به الطبيعة لروحه، فيقول (الطبيعة تكتبُ، وتحكي نفسها، والشاعر مُصغٍ بكلّ ما يفيض بهِ من أحاسيس).

وهذا الوصف يدخلنا في ما نخشاه من تحول الهايكو كتأمل في عمق حياة الكائن ورؤاه في مَشاهد الطبيعة وموجوداتها، إلى الرومانسية التقليدية في الشعر التي ارتبطت بالتغني خارجياً بجمال الطبيعة. لكن نصوص الركابي تقول شيئاً آخر؛ إذ تستبطن الطبيعة حيةً متحركة، تواجه الوعي بكونها لا تتنضد كمنظر بصري، بقدر احتشادها بالدلالات والنواحي الفكرية والفلسفية للإنسان، الذي يهرع إليها ليجد ما لا يجده في يوميات حياته المادية، التي تتأثر بما حولها من وقائع، لها كثافة وثقل لا تحتملهما رهافة الإنسان وبحثه عن ذاته، وانعكاس وعيه على رموز الطبيعة ومخلوقاتها، التي يسبغ عليها الشعر وجوداً مضاعفاً من الصفاء، الذي يقرِّب خطابها من حالة المناجاة التصوفية أحياناً.

يرى الركابي في (التوطئة)، أن للهايكو العربي مميزات خاصة، يلخصها بالمفارقة. قائلاً: (..ومن مميزات قصيدة «الهايكو العربي» عن غيرها، أنها تقومُ على المفارقة، في صورة شعرية طازجة... تجمع بينَ شروط العقل والقلب، وعاطفة يمارسها القارئ بسهولة كما الحنان، في إيقاعٍ ممتعٍ قائمٍ على المفاجأة والدهشةِ، خالييْن تماماً من قلقِ الغرابةِ.. والافتعال.. ولعبة الكلمات!). لقد اجتمع في الفقرات السابقة أكثر من عنصر لقصيدة الهايكو: المفارقة، والعاطفة، والإيقاع، وتجنب الغرابة والافتعال. وبناء على هذه الفرضيات المطلوبة نظرياً، سنتقصى بعض النماذج الكثيرة التي ضمها الديوان، متوجهين بِهدْي العنوان الذي أراد للملفوظ الشعري أن يستبطن ذاكرة الأزهار، ويدخل فيها باحثاً عن تلك الجماليات التي ذكر بعضها في الاقتباس الآنف، وسنجد أن الذاكرة الزهرية هي تخصيص قصد به الشاعرُ التعميم؛ فليست الذاكرة هنا ذاكرة الأزهار وحدها، ولكنْ ثمة مخلوقات أخرى تتقاسم مساحة الذاكرة: نباتات وحيوانات وظواهر طبيعية ومَراءٍ ومناظر من الفضاء الطبيعي والمحيط. وهنا يجدر بي ان أنبه إلى أن النقد البيئي سيسهم عربياً في الاقتراب من وجود تلك العناصر في القصائد الهايكوية، بعد أن تم نقل كثير من الدراسات والمؤلفات النظرية والتطبيقية البيئية إلى اللغة العربية.

وبرغم ما نراه من مزايا في الهايكو تهدف لتجديد الشكل الشعري، وتقديم المقترحات لأبنية الحداثة الشعرية ونصوصها، فإننا لا نخفي خشيتنا من بعض تداعيات الإقبال الحماسي على كتابته، والإقبال الجمعي المتأثر بالتقليد للسائد أو (الموضة) الشعرية جعلتنا - كقراء ومتابعين لجدل الأشكال في الممارسة الكتابية - نفضي بقلقنا من أن تصبح الهايكوات وسيلة أخرى للتكرار والتماثل الصوتي، بحيث لا يظل ثمة تميز أو خصوصية، لا سيما والكثير من كتبة الهايكو لم يطلعوا على مبرراته الفنية وموضوعاته وتاريخه كنوع شعري. ولم يتم التعرف الكافي إلى نماذجه، وتداوليتها في سفرها من موطنها الأول، وهو ما حاول الركابي أن يذكّر به في الديوان، حين سرد طرفاً من تاريخ الهايكو وأشهر شعرائه وتفرده. كما أن النثر أسهم بتخفيف الإيقاع والكثافة النصية في القصائد؛ لا سيما أن قصائد الركابي كلها تعتمد تقنية النثر الشعري وقصيدة النثر. 

 

-٣-

بقراءة نصوص الركابي، نتلمس تطبيق ما افترضه من أن الهايكو قصائد مستقلة تجسد صور الطبيعة، وما فيها من طقوس وعادات لكائناتها، ويقترب بذلك من التشخيص وأنسنة تلك الكائنات، وجعْلها تتصرف كالبشر: 

توجّهُ الورودُ

دعوةً للفراشاتِ

لحضور اجتماعها الليلكيّ الأخير

وتوقيع كتابِ

الألفةِ الأبديّة!

وبمفارقة تحدث الركابي عن أهميتها كميزة للهايكو العربي في توطئة كتابه، نقرأ له مثل هذا الهايكو الذي ينسب للفصول وظيفة أخرى غير ما نعرفه من تتابعها الزمني: 

الفصولُ

لا تعبأ كثيراً

بدورتها الكونيّة

بلْ

برسائل المطرِ

وأضواء السنابل

وللتضاد الثنائي حضور في تقنية الهايكو، كما صنع الشاعر في تقابل ثنائية الصحراء والمطر، أو الجدب والخصب كرمزين للأمل واليأس: 

كتابُ المطرِ

آخرُ

ما تُفكّرُ

الصحراءُ

في قراءتهِ!

وليست حياة الطبيعة سلاماً وسكينة وحسب، فها هو حوار الفأس والشجرة يرينا الوجه الآخر:

هناك..

من الأفق اللازورديّ

نسمعُ حواراً ساخناً

بينَ فأس حطّابٍ

وشجرة!

وهكذا عبر الشاعر عذاب الركابي في ديوانه، (في ذاكرة الأزهار - هايكو عربي).