نافذة الثقافة العربية

نساء الروايات.. هن من ورق أم من خيال

الكاتب : نبيل سليمان

المزيد من المقالات للكاتب
العدد السبعون Aug, 01 2022

في بداية المرحلة الثانوية، أواخر خمسينيات القرن الماضي، قرأت رواية (نساء صغيرات) للكاتبة الأمريكية لويزا ماي ألكوت. وأنّى لمن قرأ هذه الرواية أن يبرأ منها، وهي التي سكنت الأجيال منذ ظهرت أول مرة عام (1868م). وفي العربية أيضاً سكنت الأجيال، ولمّا تزل، منذ الخمسينيات على الأقل إلى هذا اليوم، تتصدر القراءة، وتتعدد ترجماتها وناشروها، على الرغم من كل ما يقال في أزمة الكتاب العربي. 

هذا طيف (جو)- جوزفين مارش- يومض مُدِلاًّ بأنه ظلّ الكاتبة، وهذا طيف (بيث) تعزف على البيانو وتحضن قططها. هذا طيف (إيمي)، وهذا طيف الوالدة مارغريت، ومن صفحات الكتاب إلى شاشة السينما بالأبيض والأسود، تخفق جوانحي بعد هذا العمر الطويل، وتلهب السؤال: هل أولاء نساء من ورق أم من خيال؟ وكيفما كنّ، ألسن نساء الرواية التي طالما ألهمت كتاباً وكاتبات خلال قرن ونصف القرن؟ اسألوا مثلاً: سيمون دوبوفوار. 

أما السؤال عن نساء الرواية؛ فما فتئ يشغلني عبر السنين، وطالما كتبت جواباً له فجواباً، حتى تركّزَ هذه المرة في الروايات، التي شكّلت كلمة (نساء) عنواناً لها. ومن القول النقدي الوجيه المتداول؛ أن العنوان هو اسم الكتاب، وأنه يوجّه القراءة. وللروائي التونسي الحبيب السالمي رواية (نساء البساتين– 2010م)، الموسومة بالسيرية، شأن العديد من الروايات التي تعنونت بـ(نساء...)، فهي تسرد وقائع إجازة المهاجر التونسي، القادم من المهجر الباريسي إلى حيّ البساتين من مدينة تونس، بعد خمس سنوات من الغياب. وبقدر ما هي الإجازة شخصية، هي (عمومية) أيضاً، بما يترجّع فيها من أصداء الفساد، والقبضة الحديدية، والنفاق الاجتماعي، وقمع المرأة وحقوقها وحريتها، وما ينزل على المهاجر الذي لا اسم له في الرواية، من الشتائم جراء زواجه بفرنسية... وفي وجه هذا الذي يشبه بانوراما المجتمع، يرمي الكاتب بسخريته من شعار (ابتسم فأنت في تونس). وللفلسطينية نسمة العكلوك رواية (نساء بروكسل– 2019م)، تظللها السيرية أيضاً، وهي تجمع في مدينة بروكسل، المصورة الفوتوغرافية الفلسطينية سارة، والسورية مها المهاجرة/ المهجّرة، والعراقية مريم، والتونسية سعاد، والبلجيكية نور. 

من الروايات المعنية هنا؛ ما مضى بالسيرية أبعد، ليذهب الحديث عنها مذهب التخييل الذاتي.. فرواية العراقي جمال قيسي (نساء المجرة– 2016م)، ترسم طفولة الكاتب باسم الدلع له (جمولي– من جمال). وإذا كانت الرواية تبعث الماضي: بيوت بغداد العتيقة وأسواقها ومناطقها الشعبية.. فالبؤرة هي النساء اللواتي كن بمثابة أمهات للكاتب، وبخاصة أم عبدالمنعم، زوجة عمه التي ربّته بعد ما أسلمته أمه لها، فكان طفلها المدلل. 

ومن الحق أن رواية المصرية هالة البدري (نساء في بيتي– 2018م)، تشكل فتحاً في هذا السياق، بما توافر لها من التجريبية، ومن وعي الرواية لذاتها، ومن الرؤية الأنثوية للعالم، ومن تفاعل الفنون في الرواية، ومن السيرة الإبداعية والسيرة الذاتية، والبعد المعرفي المسرّد بامتياز.

وهالة البدري، نفسها، واحدة من نساء هذه الرواية؛ باسمها وبمفاصل من حياتها الشخصية والثقافية، ابتداءً من سيرة امرأة أخرى، هي أميرة سعيد التي تعدّ لرسالة ماجستير، مقارنة بين رواية البدري (امرأة ما)، ورواية (مالينا) للكاتبة الألمانية إنجبورج باخمان. وسرعان ما تشتبك السير الذاتية والإبداعية لنساء أخريات، بينهن هالة البدري دوماً، ومنهن من مصر الكاتبة قوت القلوب، صاحبة رواية (رمزة ابنة الحريم) ورواية (زنوبة)، ومنهن الرسامة جورجيا أوكيف وفريدا كالو، وناهد بطلة رواية البدري (امرأة ما)، ورمزة بطلة رواية (قوت القلوب)، و(أنا) الكاتبة النمساوية التي لا اسم لها. 

من ليبيا؛ تُقبل رواية رزان نعيم المغربي (نساء الريح– 2010م)، على (منطقة) شائكة ومعقدة، وقلّما قاربتها الروايات قبل زلازل ما عُرف بالربيع العربي. أعني: الهجرة السرية من إفريقيا والبلاد العربية إلى أوروبا. 

وفي هذه الرواية، تحتشد النساء المهمشات من أرامل وعوانس ومطلقات، يواجهن التحرش والتنمر والاعتداء، ويقعن في حبائل العصابات، التي تنصب أفخاخ الهجرة السرية وتزينها.

إنهن نساء القاع، المهاجرات المسكونات بالخوف، الذي يصخب ما بين شرطة الحدود، والإخفاق، والسجن، والعودة والموت. فمن شخصيات الرواية: العراقية أم فرح التي تسعى إلى إنقاذ المهاجرات، وجارات الكاتبة في العمارة: يسرا وسومة وهدى، والمغربية بهيجة، التي تطلب الكاتبة منها أن تسجل حكاية هجرتها على آلة التسجيل، لتفيد منها في كتابة الرواية. 

تتصدر رواية واسيني الأعرج (نساء كازانوفا– 2016م) هذا المشهد الروائي، الذي تلامحت فيه حتى الآن روايات (لويزا ماي ألكوت)، والحبيب السالمي، وجمال قيسي، وهالة البدري، ورزان نعيم المغربي.

ومن العتبات التي افتتحت رواية واسيني، ما نقل عن ديدرو: (عندما نكتب عن النساء، علينا أن نغمس الريشة في قوس قزح، ونزرع سطورها بنثار أجنحة الفراشات). وتتمحور الرواية حول شخصية رجل الأعمال الشهير بكازانوفا، أما اللعبة الروائية؛ فقد رمت بكازانوفا بجلطة دماغية، فأوصى بطلب المغفرة من ضحاياه.
تحتشد في مكتبتي روايات أخرى، منها ما قرأته: (نساء المنكر) لسمر المقرن– السعودية، و(نساء القاهرة– دبي) لناصر عراق– مصر، و(نساء يوسف) للينة كريدي– لبنان، و(نساء بلا أثر) لمحمد أبي سمرا– لبنان.. ومنها ما لم أقرأه بعد: (نساء العتبات) لهدية حسين– العراق، و(نساء في الجحيم) لعائشة بنور– الجزائر، و(نساء الكارنتينا) لنائل الطوخي– مصر، و(نساء حائرات) لرشا عدلي– مصر، و(نساء) لإلهام عبدالكريم– العراق، و(نساء من خزف) لأماني عنان- مصر، و(نساء بلا ذاكرة) لهدى درويش- فلسطين.

إذا كان كل ما تقدم في الرواية العربية فقط، فكيف هو الأمر في الرواية غير العربية؟ لأن الجواب مُعجز؛ سأكتفي بالإشارة إلى آخر ما قرأت من هذه الأرومة: رواية (نساء) للكاتب الأمريكي الألماني الأصل: تشارلز بوكوفسكي، ورواية (نساء بلا رجال) للكاتبة الإيرانية شهرنوش باسيور. من الأولى خطفتني ألوان من النساء، تؤكد أن ألوانهن لا تنتهي، وأنهن يشمنك بألوانهن. وفي الرواية الإيرانية فتنتني الكومونة النسوية الصغيرة، حيث الحالمة مهدخت، وفايزة المتمردة، وزارين التي رأت البستاني وحده رجلاً برأس، فتزوجته، وفروخ التي حاولت أن تنهض من عثار زواجها المديد، لكنها بعودتها من الكومونة/ المزرعة إلى طهران، أعلنت استسلامها.

من كل ما تقدم من الروايات، ومن نظيراتها، يطلع السؤال عما إذا كانت تلك النساء كائنات من ورق أو حلم، من قصيدة أو لوحة أو منحوتة أو أغنية أو حكاية؟ وبالتالي؛ ألسنَ، كيفما كنَّ، نساء من خيال؟ و(نساء من خيال) هو اسم/ عنوان رواية بديعة من روايات (ممدوح عزام) البديعة.