المكان بلا شكٍّ ليسَ مجرد حيّزٍ جغرافيّ وحسب، بل هو الحاضن الوفيّ لكل أشكال الحياة، الحياة بتعددها وتنوعها، هو البشر، والشجر، والنباتات، والأنهار والبحار، كلّ مكانٍ يحمل في داخله أسراراً لم تفضّ، وطبقات سميكةً من الحكايات، كلما اكتشفتْ طبقة وجدت أخرى، وفي كل واحدة تفاصيل مدهشة.
وفي هذه المادة المعنية بتسليط الضوء على مدننا العربية، وتعريف القارئ إلى أجمل مناطق هذا الوطن الجميل من الخليج إلى المحيط، سنستعرض معكم في هذا العدد قصةَ مدينة (شحات) تلك المدينة الليبية التي تنغلق على الزائر بداخلها وتنفتح في الوقت نفسه عليه؛ لتأخذه في رحلاتٍ عجائبية لأزمنةٍ مدهشة، حيث كلّ شيء مغلفٌ بالفن والأصالة والازدهار، إن مدينة شحات تصهر الزائرَ فيها دونَ أن يدري، تسحره بكل حجرٍ موجودٍ فيها، وعلى إثر ذلك، يظلّ مفتوناً بهذه المدينة الأصيلة.
أغلب المصادر التي بحثت في أصل اسم مدينة شحات أو سيرين، كذلك وفي الأساطير الإغريقية الأسطورة الإغريقية، تقول إن اسم «سيرين» مُشتقٌّ من اسم الحورية التي فتنتْ أبولو، وذلك حينَ رآها مرةً تُصارع أسداً في الغابة، فأراد الزواج بها، وحصل ما أراد، وتحديداً في موقع المدينة الحالي، وسميت المدينة باسم الحورية، أما عن اسم شحات، فيذكر العديد من المؤرخين أن أصل اسم «شحات» يُنسب إلى ندرة المياه في المدينة، حيث إن المياه العذبة التي كانت تروي سُكانها نضبت ولم تعد موجودةً إلا بندرة، فأسموها بمدينة (العيون الشاحات)، ثُم حرّفت الكلمة بعدما تم تدوولت على مرّ أجيال وأجيال، إلى أن صارت شحات.
على علوٍ يقدرُ بـ (623) متراً من الجبل الأخضر الليبيّ، تربض مدينة شحات أو قورينا كما كانت تُعرف باليونانية في أزمنةٍ بعيدة، ومدينة شحات تعتبرُ بلا منازعٍ أقدم مدينة تاريخية خلاّبة أسسها الإغريق في أقصى شمال شرقي ليبيا، وكانَ تأسيسهم لهذه المدينة في حدود سنة (631) قبل الميلاد، وهي من أغنى المدن الأثرية في الجبل الأخضر، وظلت عاصمة الإقليم وحاضرته منذ تأسيسها وحتى القرن الثالث الميلادي. وعندما نتحدث عن تاريخ شحات العميق لا بدّ أن نعرج على ما شهدتْه هذه البقعة الجغرافية من إمبراطوريات وممالك، فقد تَبِعَتْ شحات كل الإمبراطوريات التي تعاقبت على حكم شمالي ليبيا من الجمهوريين، ومرت بمراحل تاريخية عديدة؛ كالعصر الملكي ما بين (631 - 440 ق.م)، والعصر الجمهوري ما بين (440 - 323 ق.م)، والعصر الهلنستي- البطلمي ما بين (323 - 96 ق.م)، وقد ازدهرت شحات، في تلك الأزمنة باتحادها مع جزيرة كريت اليونانية، وظل هذا الازدهار قرنين من الزمان.
في القرن الرابع قبل الميلاد، وتحديداً في العصر اليوناني، أصبحت شحات من أهم المدن في الشمال الإفريقي، وقد نمت فيها العديد من المجالات، وسمي ذلك بعصرها الذهبي، فقد كانت المدينة يومها ذات مكانة اقتصادية بارزة؛ وذلك بإنتاجها لنبات السلفيوم النادر، الذي صدرته إلى أغلب أجزاء العالم القديم، وقد انعكس هذا الازدهار عليها حضارياً وثقافياً، فأنتجت بطبيعة الحال العديد من العلماء والفلاسفة والشُعراء، الذين تركوا عبر المراحل التاريخية المذكورة أثراً ثابتاً لا يُمحى، يدل على حضارتهم التي كانت، هذه الآثار بإمكان الزائر الآن أن يراها بوضوحٍ عند زيارة أطلالها ومبانيها المختلفة.
عندما نتحدث عن مدينة شحات الليبية، يجب الإتيان على ذكر، أنها تُوجت قبل عدة سنواتٍ بالترتيب الثالث كأجمل مدينة عربية، وليس هذا هو التتويج الوحيد للمدينة، فللتأكيد على عِظَمِ سحر الطبيعة والتاريخ فيها، توجت شحات في عام (2009م) كأفضل معلم أثري سياحيّ، من بين أكثر من (160) مدينة في العالم شاركت وقتذاك في معرض لندن. ومعروف اسم المدينة جيداً في شتى الأوساط العلمية، المهتمة بالتاريخ والجمال؛ وكل ذلك لتوافر كل العوامل التي تجعل منها مدينة أسطورية الجمال، وأحد أهم هذه العوامل موقعها الجغرافي الذي تحده مدينة المرج القديمة من الغرب، ومدينة درنة من الشرق، وشحاتٌ تربطها طريق جبلية بمدينة سوسة أو أبولينا القديمة المطلة على البحر الأبيض المتوسط، هذا الموقع المميز منحها سحراً وجمالاً وخلوداً، فبقيت شحات حاضرة في ذاكرة زوارها إلى الأبد.
غيرُ منطقيٍّ أن نتحدث عن (شحات) دون أن نأتي على طبيعة أرضها، فأرض شحات معروفٌ عنها أنها جنةٌ زراعيةٌ خصبةٌ، تنمو فيها شتى أنواع أشجار الفواكه كالعنب، والتفاح، والخوخ وغيرها من الأشجار التّي تبقى مخضرة مهما تغيرت الفصول، ومن النباتات التي عرفت بها المدينة العرعر والزعتر، وأهمها نبتة السلفيوم شديدة الندرة، التّي يحكى عنها أنها كانت هبةً من (أريستايوس)، وقد مجدّها الإغريق وحولوها إلى أسطورة غامضةٍ؛ لإيمانهم العميق بأنها تُشفي من أية علة، وعن أهمية طبيعة شحات يؤكد الأثريون أن المدينة في القرن الرابع قبل الميلاد كانت من أهم المدن لدى اليونانيين، وربما أكثر أهميةً من مدنهم الكبرى، وذلك لما اشتهرت به أرض شحات من خصب ونماء، وقد ازدهر فيها النشاط الزراعي للغاية، وقد استغل الإغريق هذا الأمر أفضل استغلال، خاصة وأن أغلب أراضيهم تطغى عليها الجبال والجزر البركانية الصغيرة المتناثرة في بحر إيجه والبحر الأيوني.
من أهم مناطق المدينة وأكثرها جمالاً هي منطقة الحرم الديني، التي يختبئ في معالمها ألف عام من التاريخ، ثم الحمامات اليونانية، إضافة إلى حمامات تراجان، فضلاً عن المعابد، ومنها معبد زيوس الذي بني في القرن الخامس قبل الميلاد، ومعبد أبولو التاسع، وهنالك معبد أرتميس، ومعبد هيتاكي، ومعبد هاديس والكابيتوليوم، والسوق اليونانية المعروفة باسم الأغورا، ومجلس الشورى وقلعة الأكرابوليسك. كما توجد بالمدينة مسارح تأسر من ينظر إليها، مثل المسرح الإغريقي والذي تحول إلى أمفتياتير. أيضاً تشتهر المدينة بعمود براثوميديس ونافورة الحورية قوريني، وأيضاً النافورة الهلنيستيّة أو نافورة العين. أما منطقة الفورم أو الميدان العام فان أهم معالمها المسرح الهلنيستي أو الأوديون. ومنطقة التل الشرقي فأهم معالمها كما ذكرنا معبد زيوس، وهناك ساحة سباق الخيول، إضافة الى جبانة قوريني.
وتشتهر المدينة أيضاً بوجود متحف المنحوتات بها، والذي يضم نحو (150) قطعة أثرية مهمة، يعرضها المتحف بأسلوب العرض الحر من أبرزها تمثال سفنكس المنتصب على عمود أيوني، إضافة إلى تمثال أفروديت وآخر لأبولو والإسكندر المقدوني.
من الطبيعي أن تكون شحات بكل هذه الحمولات التاريخية والحضارية والثقافية ولادة للعديد من الشخصيات المشهورة، التي ستترك بصمةً في الوجود الإنساني بما ستقدمه، ومن أهم هذه الشخصيات، وهناك الفيلسوف أرستيبس، وابنته الفيلسوفة المشهورة أريتا القورينية، التي ذكرها الفيلسوف في إحدى رسائله المكتشفة التي سننشر جزءاً بسيطاً منها، لأنه ذكر فيها بعض مدن ليبيا: (إنك مازلت تمتلكين ضيعتين، وهما تكفيان لكي توفرا لك حياة كريمة، وهما في مدينة برنيس (بنغازي حالياً)، وإذا لم يبقَ لديك سوى هاتين الضيعتين، فإنهما كافيتان لسد حاجتك اليومية، بل وأن تعيشي بمستوى عالٍ)، أيضاً من مشاهير شحات هناك الشاعر كالمتشس، ويعد هذا الشاعر من أهم شعراء حقبته، وأكثرهم إبداعاً، وهناك العالم الجغرافي أرستوثانيوس، أول من حسب قطر الأرض، ويطلق عليه والد الجغرافيا، أيضاً في شحات ظهر سمعان القيرواني.