لم نلتقِ أبداً، على الرغم من أنَّ هذا الكوكبَ صغُرَ كثيراً حتى صارَ بحجمِ قريةٍ، ولكن للقرية أيضاً أزقتها التي قد تكون في أكثر الأحيان غيرَ نافذة.. تعرفتُ إليه من خلال أحاديثَ.. وحواراتٍ ودردشاتٍ وخطبٍ وكتبٍ. الرجلُ واضحٌ جداً مثل مشهدٍ ربيعيٍّ، لا شيء يخبئُه، ولا مجازَ يتوارى خلفَه.. أفكارُه واضحةٌ صادحةٌ، وخيالُه رقّ حتى شفّ وخفَّ وطارَ وحلقَ وارتفعَ، وعاد وحط على شجرةٍ زرعناها في حدائقنا، لا نريد تشذيبَها علّها تستحيلُ بريةً.. والبريةُ حريةً.. كما صحراؤُه وصحاريه.. التي أقامت فيه.. والتي أقام فيها.
هل كنتم تتخيلون أنّ الصحراءَ حياةٌ كاملةٌ متكاملةٌ مخضرّةٌ، وقد تكون قوسَ قزحيةٍ، وقد تبكي، وقد تكون وحيدةً وقد تتوحّدُ بك.. تفتشُ فيك عن الحب المطلق عن النور الممتد...عن المطلق، ستضع يدها في جبّتِك.. ستتلوى كثبانها.. وأنت تحت سمائها تقف في اللا مكان.. لا تعرف شمالك من جنوبك، عصاك قلبك وإيمانك بوصلة الطريق.. تعد النجوم الشاردة ولا تحسنُ عدَّها أبداً.. لذا ستظلُّ تعيدُ وتعيد!
إنه إبراهيم الكوني.. الذي حوَّلَ الصحراءَ من مجردِ مكانٍ ممتدٍ بلا حدودٍ ولا ينابيعَ ولا آثارٍ، إلى أسطورةٍ ممتلئةٍ أو ميثولوجيا سخيةٍ، فأثراها وأثرانا بفهمٍ عميقٍ لعلاقةِ الإنسانِ بنفسهِ وبالكائناتِ الأخرى في الطبيعةِ، وبأخيه الإنسانِ أيضاً.. جاء كاتبنا يدللها ويحويها ويمعن فيها.. فالكل اهتمّ بالأدغالِ والأنهارِ والغاباتِ والمدنِ والقرى والبحارِ، وحتى الفضاء، وتنكّرَ لتلك الحنون، لوطنِهِ الأم.. لمسقطِ رأسِه، ولمن بقيت رغم ضلالنا صابرًة على الظمأ..
في عالمٍ ليس معنياً بطرح الأسئلةِ بقدرِ ما تستهويه الأجوبةُ، كما يقول الكاتب إبراهيم الكوني.. يطرحُ مبدعنا أسئلةً كثيرةً دون أن ينتظرَ جواباً.. فالجوابُ حدٌّ والسؤالُ لا ينتهي ولا يُحدُّ.. الجوابُ سلاسل والسؤالُ أغنيةٌ...الجوابُ أيديولوجيا والسؤالُ ميثولوجيا.. حياتِه تجربة مليئة بالتأمل والتفكير، أفكاره نبعت منذ الصغر، منذ إبراهيم الشقي، الذي يسأل كثيراً ويتحرك كثيراً، ينبش في المشاهد عن صورة ستعلق طويلاً في ذاكرته.. يشكل ذاكرته، غامضة مجهولة ومتروكة، كما المكان الذي ترعرع فيه... خياله هواجسه، مخاوفه قصص عاشها وأخرى افترضها، انتصاراته وانكساراته وتوقعاته كلها ضمّها في باقة فوّاحة من سلسلة كتب لا تنتهي، ليست متسلسلة حرفياً، وربما قد تكون، ولا تحتوي كل ما يريد أن يقول، بحسب قوله، وربما قال..
أسميته الكاتب (الينبوع)، وليس كاتب الصحراء... لتدفقه وجريانه بلا حد، وامتلائه ولأنه لو وضعنا بجانبه وليس تحته دلواً فارغة ستمتلئ.. ضيفُ معرض الشارقة الدولي للكتاب، وشخصيةُ العام الثقافية الليبي إبراهيم الكوني.. عربيُّ الثقافةِ أمازيغيُّ الهُوية... طارقيُّ الانتماء، كوْني المسكن وأمميّ الإنسانيةِ ... كتبُه مترجمةٌ إلى أكثرَ من أربعين لغة.. ويتقن أكثرَ من ثماني لغات.. هُوياتٌ كثيرةٌ تشكّلتْ فيه مذ هُجّر من موطنه الأول؛ صحرائِه الأولى.. وحتى المنفى الأخير وحتّمت وجوده ورسمت كيانه، وأطلقت لسانه حجة، وحدسه سلطاناً، وشسعت ثقافته العاقلة وأكدت وطنيته التي لم تزح عن مسقط رأسه أبداً.. ومارت روحانيته بشحطة وجْد.. كل هذا نحت الرجلَ الأسمر، اللطيف، الهادئ، العارف، المصغي، والمترقب.
سنوات قليلة عاشهَا صاحب (خماسية الخسوف) في صحراء الطوارق، ويبدو عددها هشاً بالنسبة لسنوات عمره الطويلة.. أدامه الله، ولكنها كانت كفيلةً بحفر آبار خياله.. الكتبُ التي ألّفها غزيرة تحضن ذكريات قد تبدو لكثرتها خرافة.. نزيفه فاض على مكتبتنا ومكتبات العالم فضّمد جراح غرباتنا.. كيف يكتب هذا الرجل عن مكان لا يعيش فيه؟ يستغرب كثيرون بأنه أقام في أوروبا نصف قرن ولم يكتب عنها ولا نصّاً واحداً، بينما لم يعش في بلاده.. وكل ما كتبه فعن الصحراء.. يشرح كاتبنا بأنه ليس المهم المكان الذي نسكنه، بل المكان الذي يسكننا.. ولكن، هل الأمكنة هي حيز مساحي، أم زمني، أم بئر ذكريات؟ وما هو الوطن بنظره؟ وهل مازال وطنُه ذلك الذي فجرَته دول استعمارية في خمسينيات القرن الماضي؟ أم أنّه استبدله بوطن على شاكلته؟ يجيب باختصار وبشكل مباشر: (إنّ من يعشق الأوطان ليس أبناء الأوطان الذين سكنوا الأوطان، ولكن أبناء الأوطان الذين اغتربوا عن الأوطان).. ويكمل: (يقال إننا نصير جزءاً من كل شيء أحببناه أكثر مما ينبغي).
يشرح (الكوني) بأن (المكان عنده استعارة ورمز وليس حرفياً وفعلياً وواقعياً)، لأننا قد نكون قد أضعنا ملامحه في طريقنا نحو العمر.. والصحراء التي كتبها هي الحافز وهي استعارة لوجوده الإنساني.. ولكن السؤال الذي يخطر الآن، هل استعمل الكاتب فكرةَ الصحراء المهملة والمنفية والمهمشة، كما يقول وكما نعرف، تلك التي تحتاج لكل حنان الأمهات كي تستعيد عافيتَها، أو ربما تحتاج لكل غزل الرجال كي تستطيعَ النظر نحو مرآتها، هل استعملها ليكتب ما كتب فيصير حالة كتابية بسببها، ألم يستغِلها ليستفزّ خياله فتكتِّبَه ما لم تستطع المدنُ بكل مدنيتِها وعمرانِها وأبنيتِها الإسمنتية وأضوائها المشاكسة على فعله؟ ألا يتساوى بذلك مع من همّشها؟ أم أنه كتب عنها بعد أن سكنه الذنب اللاوعي لهجرانها؟
تنقّل من فردوسه الأول إلى واحات جنوبي ليبيا، ثم إلى روسيا (السوفييتية)، ليبقى سبعة َ أعوام لدراسة الأدب، ومن ثم ثمانيةَ أعوام في بولونيا ممتهناً الصحافة، ثم سيعود مرة ثانية إلى روسيا ليشهد انهيارَ (الإمبراطورية السوفييتية)، ومن ثم تتسلل حياته كما تتسلل شعبة ضوء من كوة صغيرة كانت قد اعتادت الهواء، ويسكن جبال الألب في سويسرا.. هذا التنقل واللا استقرار، أو فلنقل التشتت واللا سكون كان غذاء للخيال، وكان امتلاء، والامتلاء يولد نقصانه، والنقصان سيمتلئ بدوره كتباً وقصصاً وحكايات ...أفكر من أين له هذا الولاء، وكل ما نعيشه في بلادنا يدعونا للنكران؟
هذا الكونُ الشاسعُ فينا وخارجنا، يبدأ من بيتنا الأول وينتهي به أيضاً.. (غدامس) مرتع طفولة الكوني، الاكتشافات الأولى والأسئلة الأولى، الصحراء المتغيرة والتي تعيد تشكيل وجودها في كل لحظة، دون أن يلاحظ أحد ذلك، إلاّ من نسي خطواته معلقة بين الرمال والهواء.. وعلى الرغم من أن الحياة ستأخذ هذا الطفل الأسمر إلى صحاريها الكثيرة والمتعددة الأشكال.. ستبقى فيه ذكريات هذه الصحراء الصخرية هنا والرملية هناك، اتساعها.. رحابتها، ملابس الطوارق، تحرك الرمال تفتش عن مرسى، طقوس الزواج والحب، والخرافات، كل هذا يكاد يظهر بأنه خرافة، ونحن نعلم أن الزمن ممحاة..
يخبرنا مؤلف (التبر) عن الزمن الصحراوي الذي لا يحدد ولا يؤطر لا بوقت ولا بمكان، لا أطلال فيه ولا تاريخ ولا حيلة للبقاء على الأثر، ويخبرنا عن إنسان الصحراء ذلك الهائم بلا أثر، ذاكرته، مشاعره، سلوكه، المترنح بكل إرادته، وحيث الإدراك يشبه الهذيان، وحيث الهجران أو الغياب، كنز خفي يطلق أنفاس الوحي فيحول ذلك الكائن إلى أسطورة.
تحدث (إبراهيم الكوني) كثيراً عن الميثولوجيا والأيديولوجيا، وكان طبعاً يروّج للأولى، لأنه يعرف ببساطة كيف تحتكر الأيديولوجيا الحقيقة، وكيف تكون غايتها السلطة، بعزلها الجماهير عن الواقع.. فالسلطات أو النظريات الفاشية، برأيه، تبسط الواقع بدرجة مريحة لتزداد مقدرتها التعبوية لجمهور يحتاج إلى أيديولوجيا ليطمئن، أو ربما لينتظم تحت شعارات تكون بمثابة حبوب تهدئة.
حمل عالمه ومشى وارتحل وتهجّر.. والرحيل يحتاج إلى شجاعة الفرسان وصفاء الأولياء، وشرطه الملّح هو الاستغناء، والاستغناء حرية.. وشرط الحرية ألا تملك، (فمن ترك ملك).. كنتُ (أضيع نفسي لأجدها) هكذا قال.. هل وجدها بعد هذا العمر الكثيف.. وهل يستطيع الإجابة بعد واحد وتسعين كتاباً عن سؤال: من أنا؟