فوجئ المشهد الثقافي المغربي بفورة الإصدارات، التي أطلقها عدد من الأدباء والمثقفين المغاربة، مباشرة بعد رفع الحجر الصحي الوقائي ضد التّفشّي المُتسارع لوباء كورونا، الذي تواصل في المغرب منذ منتصف شهر مارس (آذار) الماضي، وهي الأعمال التي جاءت لتُسائِل جائحة كورونا من مختلف الجوانب. فخلال أقلّ من سَنة، أقدمت ثلة من الأدباء، والباحثين المشهود لهم بالرّصانة على تعبئة عُدَّتهم الفكرية والأكاديمية كي يمسكوا بهذه القضية المتحركة الطّرية الضاغطة؛ ليحللوها ويحاصروها بالأسئلة.
أول هذه الإصدارات كان دراسة لعالم الاجتماع الدكتور أحمد شراك، وجاءت تحت عنوان (كورونا والخطاب)، ولقد زاوج الباحث المغربي في كتابه الصادر عن دار (مقاربات) بين السؤال السوسيولوجي والتأمل الفكري في ارتباطٍ مع الخطاب اليومي من أجل تشخيص عصر كورونا. هكذا حاول الاشتغال على الجائحة في تفاعلها، مع مختلف مجالات الحياة والفكر على حدّ سواء. وجاءت فصول كتابه كالتالي: كورونا والثقافة، كورونا والتضامن، كورونا والقراءة، كورونا والإبداع، كورونا والإعلام، كورونا والاحتجاج، كورونا والوطـن، كورونا والإشاعة، كورونا والبحث العلمي، كورونا والأطفـال، ثم كورونا والصداقة.
وكان واضحا أن الأمر يتعلق بمفاتيح لقضايا كبرى وصغرى، قابلة لنقاش علمي أكثر برودة فيما بعد، لكن كان من المهم مع ذلك أن يتجرّأ الباحثون على تحويل (العزل) الإجباري الذي فُرِض عليهم إلى (عزلة) خصبة خلّاقة تؤسِّس رصيداً معرفياً راهناً، يمكن للباحثين أن يوجِّهوا به نقاش ما بعد كورونا، لقطع الطريق على الخطابات الإعلامية التَّحسيسية، وكذا خطابات وسائل التواصل الاجتماعي المُغرقة في التفاهة والاختزال.
وفي هذا الإطار تحديدًا جاء كتاب (خطاب الجائحة) الذي أصدره (مركز عطاء للبحث في اللغة وأنساق المعرفة) ثرياً بالدراسات التي حللت الخطاب المرتبط بجائحة (كورونا) من مختلف الجوانب. فالبلاغي المغربي الدكتور عادل عبداللطيف، حلَّل خطاب السلطة زمن كورونا، وشرَّح بلاغات وزارة الداخلية متوقّفاً عند لغتها المباشرة وعباراتها الوظيفية وخطابها القاصد والزّاجر، وكيف نجح خطاب السلطة في إظهارها بمظهر الدولة الحامية القادرة على التعبئة العامة لمواجهة الجائحة. فيما توقف الدكتور مزايد مولود هيدالله عند الاستعارة الحربية التي لجأت إليها مختلف الدول والحكومات، لوصف تعامُل سلطاتها مع الجائحة. فأغلب الرؤساء والقادة من الأمريكي ترامب والفرنسي ماكرون إلى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، تحدثوا عن (حرب) ضد الفيروس معتبرين الأطباء والممرضين (جيشاً أبيض) و(جنوداً مُجنَّدين) في (الخطوط الأمامية) للمعركة ضد الفيروس. ولقد حذّر الباحث، من أن استدعاء صور الحرب أثناء التعاطي مع الأمراض والأوبئة، يُخفي استدعاءً للجانب المظلم في الكيان الإنساني، حيث تتمُّ (شيطنة المرض) ثم شيطنة المريض نفسه فيما بعد، ما ورَّطنا جميعاً في حالة، أن يصير تفكيرُنا في المرض أقسى من المرض ذاته. وهذه بالضبط هي الحالة التي عشناها مع كورونا.
باقي الدراسات حاولت مقاربة مختلف الخطابات، التي تبلورت حول هذه الأزمة الوبائية، بدءا بالنُّكت الغزيرة التي تناسلت عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، والتي كانت تعكس في العمق محاولة يائسة من طرف المواطنين البسطاء، للسّيطرة على وضعٍ، يدركون في قرارة أنفسهم كم هو متفاقم وكم هم عاجزون عن التّحكم فيه. بل إن الدكتور هشام فتح، سينصرف في دراسته (الوباء وصناعة الإمتاع) إلى جمع العديد من النكت والمقولات الساخرة التي تعجُّ بها وسائط التواصل الاجتماعي مفكِّكاً مُضمَراتِها وأبعادَها الفلسفية والنفسية. فيما اشتغل عدد من الباحثين الآخرين على (بلاغة سرد الجائحة) بدءاً بالنصوص القديمة التي كتبها القدامى عن الجوائح والأوبئة، كما هو الحال بالنسبة للطوفان في ملحمة جلجامش إلى (يوميات عام الطاعون) لدانيال ديفو، فالأعمال الروائية الحديثة كـ(الطاعون) لألبير كامو، و(العمى) لساراماغو، وانتهاء بتحليل بعض النصوص الأدبية من سرود وتأملات وقصائد شعرية نشرها أدباء مغاربة على الفيسبوك وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي أيام الحجر.
مع العلم أن عدداً من هذه النصوص جمعها مؤلفوها وشرعوا في نشرها تباعاً في كتب، وذلك على غرار ما قام به القاص المغربي أنيس الرافعي، الذي أصدر عن (دار خطوط) كتاباً سردياً تحت عنوان (أرخبيل الفزع: كرّاسة محكيات المعزل)، بكلمة مضيئة على الغلاف للأديبة الفلسطينية رجاء بكريّة. وكتاب الرافعي، كُرّاسة شخصية لمحكيات المعزل. فعلى امتداد أزيد من أربعين يوماً من أيام فترة الحجر الصحي، واظب أنيس، على نشر تدويناته الحميمية كمواطن وتحليلاته الأدبية ككاتب على صفحته بالفيسبوك، في محاولة منه لاستكناه هذه اللحظة الحرجة. فجاء عمله السردي نصاً يجمع في ضفيرة واحدة، السرد القصصي والتخييل الذاتي والتحليل النقدي والتعليق الصحافي واللوحة الفنية. فيما أصدرت الشاعرة والروائية عائشة البصري عن (الدار المصرية اللبنانية) بالقاهرة، روايتها الجديدة (كجثة في رواية بوليسية) وهي الرواية التي باشرت كتابتها منذ الأسبوع الأول للحجر المنزلي، بعدها وضعت جانباً عملاً أدبياً سابقاً كانت تعكف على إنجازه. هكذا خاضت بتحدٍّ غمار عمل روائي جديد تدور أحداثه في زمن كورونا، في نوع من الاشتباك الفوري المباشر مع الوباء وتداعياته.
الأديب والصحافي عبد العزيز كوكاس، طلع علينا هو الآخر بكتاب مهم بعنوان طريف هو (في حضرة الإمبراطور المعظم كوفيد التاسع عشر) الصادر عن (دار النورس) في (168 صفحة). الكتاب قدم له المفكر المغربي الدكتور محمد سبيلا، قائلاً: (لعل هذا الأسلوب المرح الذي يتحفنا به كوكاس، والذي يأخذنا بعذوبته اللفظية ويقذف بنا ضمن مُراوحاته الدّلالية المُستطابة بين مراوغة الموت ومُفاكَهة العدم، قادر على أن يجعلنا نقتنص لحظات من ظلال المتعة الدفينة في أعماق هذه المأساة). فيما يوضّح لنا كوكاس، أنَّ ما خطَّطَه في الكتاب هو: (ما يشبه المسودة الأولى للتفكير العميق، الذي أستحي أن أزاحم فيه ذوي الاختصاص من علماء ومؤرخين وسوسيولوجيين وفلاسفة. فهذه الكتابات التي جاءت من وحي فيروس كورونا، حاولت أن تمسك بالجوهري في سياق الحدث المُعوْلَم وإسقاطاته الرمزية والثقافية والسياسية والمجتمعية، في محاولة لوضعِ اليد على التّغيرات، التي من غير المُستبعَد أن يفرضها الفيروس التّاجي على قيمنا الكونية). ويضيف كوكاس: (لست مؤرِّخاً ولا عالم أوبئة، ولست باحثاً في السوسيولوجيا، أو مختصاً في دراسة التحولات البنيوية للمجتمعات البشرية السائرة نحو إعادة بناء استراتيجية جديدة لأفقها. وإنما ككاتب ومحلل صحافي، كنت معنياً بالتأمّل ومحاولة ملامسة مركز التحولات، التي من المحتمل أن يفرضها الفيروس التاجي على القيم والسلوكات والبنيات والعلاقات).
أما الكاتب والصحافي مصطفى اللويزي، فقد طلع علينا بكتاب باللغة الفرنسية تحت عنوان (مِن تواصُل الأزمة إلى أزمة التواصل)، رصد فيه تعامُل الحكومة المغربية والإعلام الوطني مع الجائحة، حيث اشتغل على متنٍ مهم من المواد الصحافية التي قام بتحليلها، ليستنتج منها صعوبة بلورة استراتيجية تواصُل مُحكَمَة في مثل هذه الأزمات، كأزمة كورونا التي أربكت حسابات واستراتيجيات الجميع بما في ذلك الإعلام.
أما الأديب عبده حقّي، فقد طلع علينا بكتاب تحت عنوان (عام كورونا) على وزن (عام الفيل، وعام الطاعون). هذا الكتاب يلملم بين دفتيه ثلاثين مقالاً حاول حقّي من خلالها رصد تفاعل واقتفاء ردود فعل أشهر خبراء الصحة والاقتصاد والسياسة والفن والثقافة والإعلام، عبر العالم وكذلك مدى تأثير جائحة كورونا في سيرورة القطاعات التي يشتغلون بها.
فيما هزم الفيروس الأديب والصحافي المغربي الكبير محمد أديب السلاوي قبل أن يُتِمَّ كتابه عنه. فقد كان الكاتب الراحل المشهور باشتباكه مع مختلف الظواهر السوسيوثقافية والبيئية، وتأليف كُتبٍ عنها، قد عكف على الجائحة يُحاصرها بأسئلته النقدية النبيهة محاولاً فهمها واستيعابها. وبدأ الراحل يُصدر مقالاته بالتدريج. وكان كل أصدقائه يتوقعون منه كتاباً عن الجائحة. لكنَّ الفيروس اللعين اختطف روح أديبنا الراحل، بعد سويعات قليلة على نشره آخر مقالة خطّها يراعه، هكذا غادرنا أديب السلاوي، قبل أن يظهر اللقاح ليبقى سؤال الراحل معلقاً. فيما تتناسل الأسئلة والتأملات، عبر مقالات وكتب متلاحقة، تؤكد أن الجائحة قد روّعت العالم، وأن المثقفين يظلون في الطليعة فعلاً، وفي الواجهة. فهُم من أقدر شرائح المجتمع على مواجهة الظواهر المستحدثة، ومساءلة التحولات المُفاجِئة المُربِكة.