هو أحد الرموز المهمة بالواقع الثقافي المصري والعربي، اشتغل ومازال في مشاريع متعددة كالثقافة والهوية والنص. باحث وناقد ومفكر وأكاديمي، يعمل أستاذ النقد الأدبي الحديث، ووكيل كلية الآداب بجامعة قناة السويس. ولد بمحافظة سوهاج (1970م). وحصل على ليسانس دار العلوم من جامعة القاهرة (1993م)، وماجستير اللغة العربية وآدابها من جامعة عين شمس (1997م)، ودكتوراه اللغة العربية وآدابها تخصص دراسات أدبية من جامعة عين شمس (2001م)، عمل رئيس دار الكتب والوثائق القومية من (2016-2017م)، ونائب رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب (2015م)، كما عمل مدير التحرير والنشر بالمركز القومي للترجمة من (2011-2014م)، وخبيراً لمناهج اللغة العربية بوزارة التربية والتعليم في سلطنة عمان من (2005-2007م).. حصل على جائزة طه حسين في النقد الأدبي (2010م).

صدر له كثير من الكتب؛ منها: قصيدة النثر وتحولات الشعرية العربية (2003م)، الرواية الجديدة.. قراءة في المشهد العربي المعاصر (2010م)، شتاء سيجتمع الأصدقاء، شعر (2011م)، طه حسين.. لغو الصيف وجد الشتاء (2014)، الثقافة والهوية والتكنولوجيا (2016م)، مساءلة العقل العربي (2017م)، اللغة العربية لغير المتخصصين (2019م).
إنه الدكتور محمود الضبع؛ الذي يتحدث في هذا الحوار لمجلة «الشارقة الثقافية».
¯ ولدت ونشأت بصعيد مصر؛ هل تختلف النشأة في بيئة صعيدية عن النشأة بغيرها؟
- تؤثر البيئة في تشكيل الإنسان، وتعد السنوات الخمس الأولى مرحلة فارقة في تشكيل الشخصية نتيجة عوامل عدة، أهمها البيئة المحيطة (على اختلاف مداخلها الجغرافية والثقافية والاجتماعية..). وقد نشأت ببيئة ريفية تتسم بالبراح في كل شيء، مساحات خضر ممتدة عبر أرض منبسطة لا تقطعها سوى منازل متفرقة تفصل بينها أفدنة عديدة، ثم تلال رملية مرتفعة تظهر في منتهى مرمى البصر، وبيئة تضعك في تجربة تحمل المسؤولية منذ الصغر، وتتيح لك الاختلاء بنفسك للقيام بالمغامرات الصغيرة مع الأقران، وتجربة التعامل المباشر مع الأشياء من حولك بعيداً عن عين الرقيب، ما يسمح بالمحاولة والخطأ (تلك الخبرة التي تأسس عليها التطور البشري منذ بداية التاريخ).
يضاف إلى ذلك؛ ما منحته هذه البيئة من تأمل لا يداخله التشويش المعاصر (أبواق السيارات، وصخب المدينة بشكل عام)، وهو ما جعل النشأة هناك مختلفة بكل المقاييس.
¯ بدأ عشقك للقراءة في الصف الثاني الابتدائي؛ حدثنا عن تلك المرحلة المهمة؛ ماذا قرأت، وما أهم الكتب التي أثرت فيك؟
- البداية أذكرها جيداً، كانت مع كتب كامل كيلاني والمكتبة الخضراء، وبخاصة مجموعاته القصصية التي كانت تتنوع بين القصص الفكاهية، وقصص من ألف ليلة وليلة، وقصص هندية، وقصص شكسبير، وأساطير العالم، وقصص علمية، وأشهر القصص، وقصص عربية، وقصص تمثيلية. ثم كانت مكتبة المدرسة، حين كانت للمدارس مكتبات، تقوم على اختيار محتوياتها لجان من كبار المثقفين والفنانين في مصر، وحين كان اليوم الدراسي فيه المتسع من الوقت، يضم فسحتين الكبرى فيهما مدتها ساعة، كنت أقضيها بالمكتبة.
أيضا؛ تأتي مكتبة الجد الأزهري، التي كانت تتنوع محتوياتها بين كتب الدين والفلسفة والأدب والتاريخ.. كل ذلك فتح عيني على الأدب العالمي عبر ترجمات دار الهلال، وبخاصة الأدب الروسي والروايات العالمية المبسطة لتولستوي وتشيخوف ودستويفسكي وشتاينبك وجورج أورويل، وأعمال طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم.
¯ استيراد المناهج النقدية الغربية على مدار القرن الفائت، أبعدنا عن قراءة نتاجنا الإبداعي العربي حسب رؤيتنا وعقليتنا نحن؛ أليس كذلك؟
- نعم، من خلال تخصصي في النقد الأدبي، وانشغالي بالدراسات الثقافية العربية، أرى أنه عبر القرن العشرين، تم الاعتماد على استيراد مناهج النقد الغربية، التي فصلتنا عن هويتنا العربية، وجعلتنا نقرأ الأدب العربي بعقلية غربية، واليوم؛ لا يوجد ما يربطنا بتراثنا العربي ومنجزه الفكري في علوم الأدب، لا في البلاغة، ولا النظريات الأدبية التي اعتمدها الجاحظ، وأبو حيان التوحيدي، وعبدالقاهر الجرجاني، وأبو هلال العسكري، وابن رشيق القيرواني، وابن طباطبا العلوي، ولا الفكر الفلسفي الذي بلوره الغزالي والفارابي وابن رشد، ولا المنجز اللغوي الذي حققه ابن جني، ومدرسة الكوفة والبصرة والمدرسة المصرية، ولا غيره مما انحرف المسار عنه، وصرنا نعتمد على الفكر الغربي، علماً أن كل ما سبق لايزال الفكر الغربي يعتمد عليه، ولنبحث مثلاً عن الاهتمام بابن رشد.. حتى الآن في دراساتهم وأبحاثهم.

¯ قديماً؛ ساهم العقل العربي بشكل كبير في صناعة الحضارة الإنسانية، تُرى؛ ما الذي يمكن أن نفعله كي نعود إلى ما كنا عليه؟
- قدمت في كتابي (الثقافة والهوية والوعي العربي) (2016م) تصوراً حول كيفية استعادة التراث العربي وإعادة توظيفه بمفهوم (إنتاج المحتوى) المعاصر، وذلك بعد مراجعته وتنقيته وتهذيبه، وإنتاجه بالصيغ المعاصرة المتداولة عبر وسائل التكنولوجيا، والمتناسب مع المعلوماتية ومجتمع المعرفة.
¯ في (2013) حصلت على جائزة طه حسين في النقد من المجلس الأعلى للثقافة، وأنت قارئ جيد لجميع لمؤلفاته؛ حدثنا عن إفادتك منه ورحلتك معه.
- هو علامة في تاريخ الفكر العربي المعاصر، والحقيقة أنني كل عدة أعوام أعيد قراءة أعماله كاملة، بدءاً من رجعة أبي العلاء، ومروراً بالشعر الجاهلي، والأدب الجاهلي، ومن بعيد، وحديث الأربعاء، والفتنة الكبرى.. وغيرها؛ وقد أفدت منه الكثير، بدءاً من فكرة الشك المنهجي (التي تعد بداية التفكير الناقد)، ومروراً بشمولية النظر إلى التراث العربي، وانتهاء بموسوعية الباحث، التي لا تكتفي بالتخصص المحصور في حقل معرفي واحد، وإنما التنويع بين العلوم الإنسانية، والتجريبية، وبين الفلسفة والتاريخ واللغات والتربية والدين والسياسة والفنون والآداب.
¯ الترجمة هي الجسر الذي يمكن من خلاله التواصل بين الشعوب ومعرفة الآخر؛ كيف تقيّم ما وصلنا إليه في هذا الاتجاه؟
- تشير كثير من إحصاءات اليونيسكو أن الوطن العربي الذي يزيد تعداده على (300) مليون نسمة يترجم سنوياً (475) عنواناً، أي بمعدل (4.4) كتاب لكل مليون مواطن عربي سنوياً، في حين تترجم إسبانيا البالغ عدد سكانها (38) مليون نسمة أكثر من (10) آلاف كتاب سنوياً. وأشار تقرير (التعليم العالي في البلدان العربية) لعام (2008م) أن اللغة العربية تترجم (330) عنواناً في العام، في حين تترجم اليابان نحو (30) مليون صفحة سنوياً، وأن عدد العناوين التي تمت ترجمتها للعربية منذ عام (1970، وحتى عام 2000م) بلغ (6881) عنواناً فقط، ثم ارتفع حتى عام (2019م) إلى (7670) عنواناً (تبعاً لإحصاءاتنا الأخيرة التي رصدناها في دراسة موسعة).
¯ قلتَ من قبل إن الفنون السبعة جعلتك ترى في نجيب محفوظ أبعاداً لم تكن تراها من قبل، نود أن تقربنا أكثر من هذه الجزئية.
- صنف الإغريق الفنون قديماً إلى ستة، هي على الترتيب: العمارة والموسيقا والرسم والنحت والشعر والرقص، ثم طورها وأضاف إليها (إيتيان سوريو) ليكون ترتيبها: النحت والعمارة، والرسم والزخرفة، والتلوين التمثيلي والصرف، والموسيقا، والإيماء والرقص، والأدب والشعر، والسينما والإضاءة. وهي فنون جمعتها السينما كاملة في أفلام، أو اعتمدت على بعضها في أفلام أخرى، وهو ما يمكن رصد حضوره بالكيفية ذاتها في كثير من أعمال نجيب محفوظ السردية. من هنا؛ كان مدخلي لقراءة نجيب محفوظ في كتاب (أزمة النقد وانفتاح النص، نجيب محفوظ والفنون السبعة) (2019م)، وقد كانت محاولة للخروج بالنقد من أزمات انغلاقه، وانحساره في المؤسسة الأكاديمية على تطبيق المناهج الغربية، وتقليد الدراسات السابقة في قراءة الآداب والفنون، أو على أحسن تقدير الاعتماد على التأويل تبعاً لثقافة الناقد.
لقد كانت الفكرة إجمالاً محاولة لفتح بوابات جديدة بعضها قد ينفتح، وبعضها قد لا يجد استجابة على مستوى التلقي، لكنها في نهاية الأمر تحاول التأسيس للتعددية وهدم اليقينية المطلقة ووجهة النظر الواحدة.