نافذة الثقافة العربية

بيت الحكمة في الرصافة التعبير المؤسسي الجامع للطموح الحضاري

الكاتب : عبدالرحمن الهلوش

المزيد من المواضيع للكاتب
العدد الواحد والستون Nov, 01 2021
يتألق في جانب الرصافة من بغداد بجوار القصر العباسي بيت الحكمة الذي يطلُّ على نهر دجلة، ويُعَدُّ واحداً من أبرز مراكز البحث في العراق، وأحد أكبر المراكز العلمية التي ظهرت في العالم، وكان له شهرة كبيرة على صعيد المعرفة عربياً وعالمياً. كما كان لبيت الحكمة دور عريق في نشر مختلف العلوم والمعرفة، إضافة إلى الإسهام الفعال في تعريب العلوم بنقلها من اللغات المختلفة إلى اللغة العربية.

 أبو يوسف يعقوب الكندي

يُذكر أنَّ بيت الحكمة تأسس في بغداد عاصمة الدولة العباسية في القرن الـ (8) الميلادي. ففي العام (840) للميلاد أمر الخليفة هارون الرشيد بإنشاء أول جامعة في التاريخ (بيت الحكمة)، ولما دخل الرشيد عمورية وأنقرة أمر بالمحافظة على ما فيهما من مكتبات، وانتدب بعض العلماء والمترجمين من بغداد لاختيار الكتب القيمة منها، ونقلها إلى بغداد، وكان يوحنا بن ماسويه (ت 243هـ)، مسؤولاً عن تلك المؤلفات، حيث رأى الرشيد أن تحفظ الكتب المترجمة والمخطوطات النادرة في مكان آمن، أُطلِقَ عليه فيما بعد (بيت الحكمة). وقد فاقت محتويات بيت الحكمة الأربعمئة ألف كتاب. حيث استقدم لها الرشيد أكابر القراء واللغويين والمترجمين، وأنفق أموالاً طائلة لرعاية هذا الصرح العلمي العالمي. ومن أجل استيعاب ضخامةِ العملِ المعرفي المطلوب لترجمة ونَسخِ ودراسةِ وخزنِ الحجمِ الضخم من المتون الفارسية والسنسكريتية واليونانية، تم إنشاء مكتبة ملكيةً على غرار تلك التي كانت لملوك الفرس العظام. ومع الوقت، صار بيت الحكمة يشتمل على مكتبٍ للترجمة، ومستودعٍ للكتب، وأكاديمية من العلماء والمفكرين الوافدين من أرجاء الدولة العباسية.

 

لكنَّ وظيفته الأولى كانت حفظ المعرفة، التي لا تقدر بثمن، ما ظهر بتعبيرات أخرى لدى المؤرخين العرب، استخدموها لوصف المشروع، كخزانة كتبِ الحكمة أو ببساطة خزانة الحكمة. فغالباً ما كانت الوفود العباسية إلى البلاط البيزنطي المنافس تَنقل إليه طلبات للحصول على نسخ المتون اليونانية النفيسة، ونجحت في الحصول على أعمالٍ لأفلاطون (428-348ق.م.) وأرسطو (384-322ق.م.) وأبُقراط (460-370ق.م.) وجالينوس (129-216م) وإقليدس (323-283ق.م.). وسرعان ما انتشرت بين العرب، ومن ثمَّ اللاتين نسخةٌ لتحفة بطليموس (100-170م) في علم الفلك، كتاب (المجسطي)، وقيل إنَّ الحصولَ عليها كان أحد شروط الصلح بين القوتين العظميين.

أبو يوسف يعقوب الكنديلم يكن الخلفاء وعلماؤهم الرسميون وحدهم فقط وراء هذهِ الحملة العلمية والمعرفية، فقد بات هذا المسعى سمةً ملتصقةً بالمجتمع العراقي بصورةٍ عامة والبغدادي على وجه الخصوص، وحظي بدعمٍ حماسي من النُخبة الاجتماعية والسياسية، من علية الأمراء والتجار والمصرفيين والضباط العسكريين، حتَّى جواري الخلفاء عُرف عن بعضهن أنَّهن كُنَّ يتعاقدن أحياناً مع علماءٍ للقيام بترجماتٍ تخصصية. ثمّ جاء زمن الخليفة المأمون ابن هارون الرشيد، والذي أكمل مسيرة والده في بغداد لكنَّ زمنه شَهِدَ تألقاً عظيماً في الحضارة وصناعتها، فقد تفردّ عهد المأمون بتطور مطلق في شتى العلوم، وبلغت حركة ترجمة الكتب إلى العربية أوجها، فقد كان المأمون يعطي المترجمين والمؤلفين أوزان كتبهم ذهباً، وكان يُخصص لأبرع المترجمين في الدولة العباسية مبالغ ضخمة لقاء عملهم، وقد عُرف عن أحدهم أنه كان يتقاضى وزنَ المخطوطة التي يترجمها ذهباً، أو يرتقي إلى منصبٍ رفيع نظيرَ قوةِ منجزاته الفكرية. وعلى امتداد (150) عاماً، تَرجم العرب كلَ كتبِ العلم والفلسفةِ اليونانية، وأصبحت اللغة العربية لغة عالمية في البحث العلمي محل اليونانية، ومن هنا أصبح (بيت الحكمة) مقصداً لجميع العلماء والمفكرين وطلاب العلم من جميع أنحاء الإمبراطورية.

حيث استطاع المأمون أن يجعل (بيت الحكمة) من أكبر مراكز المعرفة في العالم، وهو الذي كان بارعاً في فروع المعرفة، بما في ذلك الطب والفلسفة والعلوم والنجوم، ويُقال إن الخليفة المأمون لما وصله خبر مكتبة صقلية والتي كانت محتوياتها غنية بالفلسفة والكتب العلمية اليونانية, أرسل المأمون خطاباً إلى ملك صقلية يطالبه بمحتويات المكتبة، ولم يتردد ملك صقلية بتلبية طلب المأمون، حيث أرسل محتويات المكتبة إلى بغداد ليتم وضعها في (بيت الحكمة)، وذلك بناءً على نصيحة الأساقفة في إيطاليا الذين رأوا انَّ محتويات هذه المكتبة لم تكن مفيدة للشعب آنذاك.

أفلاطونوكان هناك ثلاثة مترجمين في عصر المأمون أُوكِلَت إليهم إدارة بيت الحكمة، مثل، أبي يوسف يعقوب الكندي مسؤولاً عن ترجمة أعمال أرسطو، وسهل بن هارون وكان كاتباً حكيماً وشاعراً معروفاً، وسليم الفارسي ترجم عدداً من المؤلفات من الفارسية إلى العربية، وهي من كتب الخرافات والأسمار والأخبار، ومحمد بن موسى الخوارزمي أشهر العلماء في بيت الحكمة زمن المأمون. ولكن بعد خلافة المأمون بدأ بيت الحكمة يفقد بريقه، حيث لم يعد من أولويات الخلفاء، وبدأت الحركة العلمية مرحلة من الجمود والإهمال؛ وذلك بسبب الغزوات والحروب التي انشغل بها الخلفاء وأبعدتهم عن ميدان المعرفة والعلوم. وكان صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة، قد افتتح (بيت الحكمة) في إمارة الشارقة يوم (٩ ديسمبر ٢٠٢٠ م)، وقد جهز بآلاف الكتب المطبوعة والرقمية، وأماكن لإقامة المعارض، ومختبر للتصنيع، ومعدات وتجهيزات عالمية المستوى تساعد على تحفيز الابتكار والطاقات الإبداعية.