قبل تسجيل الفنان السوداني الشهير (شرحبيل أحمد) أغنياته، وبثها على موجات الأثير بالإذاعة السودانية بأم درمان، ظهر لأول مرة أمام الجمهور على مسرح سينما الخرطوم جنوب، ولقب بـ(ملك الجاز). (شرحبيل) متعدد المواهب، فهو مغنٍّ، ملحن، شاعر، موزع موسيقي، رسام، وأحد الرواد في المجال الصحافي، وقد نشأ وولد في حي العباسية في أم درمان، عام (1935م)، وتلقى تعليمه الأولي بكُتّاب بابكر بدري بمسقط رأسه، ثم في كتاب حي العباسية، وانتقل بعد ذلك مع أسرته إلى مدينة الأبيض، بولاية شمال كردفان في الغرب الأوسط بالسودان، حيث أكمل تعليمه بمدرسة النهضة، التابعة للبعثة التعليمية المصرية.
بتشجيع من الفنان التشكيلي السوداني إبراهيم الصلحي، التحق بكلية الفنون الجميلة، بالمعهد الفني في الخرطوم عام (1949م). وبعد حصوله على دبلوم الفنون الجميلة، عمل بوزارة التربية والتعليم السودانية بالخرطوم، رساماً في قسم الإخراج الفني، بمكتب دار النشر للكتب المدرسية، ومجلات الأطفال، وكتب محو الأمية.

ابتكر (شرحبيل) شخصية (العم تنقو) الكاريكاتيرية، المعروفة لدى الأطفال بمجلة (الصبيان)، الأكثر انتشاراً خلال ستينيات القرن الماضي، واستطاع شرحبيل تكوين فرقة موسيقية، تتكون من عدد من العازفين، من بينهم شريكة حياته (زكية أبوالقاسم)، فحققت نجاحاً من خلال الحفلات التي شاركت فيها داخل السودان وخارجه، وفي الحوار الآتي، والذي أجريناه معه، يمكننا الوقوف عند أبرز محطات حياته الفنية والثقافية:
• حي العباسية من الأحياء التي لا يمكن أن تغيب عن ذاكرتك منذ صباك، وبحكم كونه أنجب العديد من المثقفين والفنانين، فهل يحق أن نطلق عليه مدرسة بنظرك؟
- نعم، يمكن ذلك، بحكم أن هذا الحي جمع بداخله مجموعة من المثقفين، وعدداً من الأندية الرياضية والثقافية، ما جعل أبناء هذا الحي يتدارسون، ويجتمعون في شبه منتديات ثقافية للمناظرة والإبداع، فكانت تلك المنتديات محل إلهام للمبدعين الفنانين والشعراء.
• من هم أبرز المثقفين والفنانين الذين أنجبهم حي العباسية؟
- أنتج حي العباسية العديد من الشخصيات الأدبية والفنية، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الفنانة عائشة موسى (الفلاتية)، والتشكيلي إبراهيم الصلحي، والفنان عبدالدافع عثمان، وشرحبيل أحمد وفرقته، والشاعر عوض أحمد خليفة، والفنان زيدان إبراهيم، والمربية عائشة سالم، والرياضي الشهير لاعب الهلال الرياضي صديق منزول، وآخرين..

• وجدت صعوبة للالتحاق بكلية الفنون الجميلة بالمعهد الفني في الخرطوم، بسبب الخلفية الثقافية لوالدك، فهل هذا صحيح؟
- الصعوبة لم تكن بسبب الخلفية الثقافية لوالدي، ولكن السبب هو أن الوالد لم يكن يتصور أن الفن التشكيلي مرتبط بكلية متخصصة، تدرس فيها مادة الفنون منفردة، وأن الدارس سيحصل في النهاية على دبلوم كسائر العلوم الأخرى، ويحصل أيضاً على وظيفة وعمل، ولكن بعد أن تأكد من ذلك، أعطاني الضوء الأخضر، فكانت فرحتي شديدة. وكان ذلك هو تخصصي، وقدري أن أكون تشكيلياً، فبدلاً من أن أواصل تعليمي بالثانويات التابعة للبعثة التعليمية المصرية، التحقت بكلية الفنون الجميلة بالخرطوم.
• ظهرت موهبتك الفنية والغنائية في وقت مبكر، فما هي العوامل التي أسهمت في انبثاقها؟ وهل كنت تتصور بأن مستقبلك سيكون مرتبطاً بعالم الغناء والموسيقا، خصوصاً بحكم تعدد مواهبك؟

- فعلاً كنت أحفظ الأغاني الشرقية، المصرية، خاصة أغاني فنان الأجيال الموسيقار (محمد عبدالوهاب)، منذ أن كنت في السادسة من عمري، ودائماً كنا نذهب مع والدي إلى دار السينما في نهاية كل أسبوع، وأيضاً عندنا في المنزل فوتوغراف، وهو جهاز تدار عليه الأسطوانات المسجلة عليها أغانٍ كان والدي يحبها، وهي أسطوانات أغانٍ كانت تعرف بأغاني (حقيبة الفن) للفنانين السودانيين الرواد، أمثال الفنانَين (سرور، وكرومة)، اللذين كانا مشهورين جداً.
وكانت عندنا أسطوانات شرقية لسيدة الغناء العربي أم كلثوم، وسيد درويش، وأسطوانات غربية.. وبعد أن أصبحت موظفاً، اتسعت خبرتي الموسيقية قليلاً، فتعلمت العزف على العديد من الآلات الموسيقية، مثل: الكمان، العود، الجيتار، الموندلين، والهارمونيكا.
وبالنسبة للاستماع، بدأت أستمع، وأحفظ أغاني عربية وغربية وإفريقية، مثل أغاني عبدالحليم حافظ، وفريد الأطرش، وأغاني سودانية لمطربين سودانيين، وأغاني هندية، وبالرغم من كل تلك الخبرة، والمعرفة الغنائية، كنت أعتبرها مجرد هواية فقط، ولكن بتشجيع من الزملاء بالمكتب، والأصدقاء الذين أكدوا لي أنني سوف أنجح في هذا المجال، بما لمسوه عندي من المواهب، فكانت تجربتي التي بها دخلت عالم الموسيقا والغناء والنغم، من خلال برنامج (ركن الأصوات الجديدة)، الذي أسسته الإذاعة السودانية، لتستوعب فيه أصواتاً جيدة واعدة، فكنت أنا واحداً منها.

• ما هي أبرز الحفلات والمهرجانات التي شاركت فيها فرقتك الموسيقية؟
- شاركت في العديد من الاحتفالات داخل وخارج السودان، ومن أبرز تلك المشاركات، مهرجان عيد المرجان في تونس/ طبرقة، وعيد (شهر7) في تنزانيا، ومهرجان الفن الإفريقي في الجزائر، وحفل بمعهد العالم العربي في باريس/ فرنسا، وحفل هيورت يونيفيرسيتي في واشنطن/ أمريكا، وحفلات بدار الأوبرا المصرية في القاهرة، وحفل غنائي على مسرح بتهوفن في ألمانيا/ بون، وعديد من الحفلات في إنجلترا، وأوغندا، وإثيوبيا، وافتتاح النادي السوداني في دبي/ الإمارات.
• اتبعت طريقة جديدة لكتابة مذكراتك، فهل بإمكانك أن توضح لنا معالمها، أو بعبارة أخرى أين وصل حوار الجد مع أحفاده؟
- كنت أود أن أكتب مذكراتي عن طريق الرسومات، والحوار والسيناريو، ولكن وجدت أن هذه الطريقة تتطلب جهداً ووقتاً طويلاً، حيث تكون مصحوبة برسومات عديدة، ولذلك أرجأت كتابتها بهذا الشكل، وأفكر في طريقة أخرى تكون أسرع وأسهل في الإخراج والتنفيذ. وعليه؛ مازال الجد مع أحفاده في أول المشوار.
• تعد مجلة (الصبيان) الصادرة سنة (1946م)، أيقونة من أيقونات الثقافة السودانية، ورائدة مجلة الأطفال في الشرق الأوسط، كما لا يمكن الحديث عنها دون ذكر اسمك الذي اقترن بها، فما السر في تحقيقها هذا النجاح؟ ومن هم أبرز روادها؟
- حقيقة إن السر في تحقيقها هذا النجاح، يرجع إلى ظهورها في الوقت المناسب، حيث وجدت العناية، وتحققت لها كل سبل النجاح، من أسرة تحرير متفهمة تماماً لما تعمل، وكذلك من أسرة تحرير فني، من رسامين ومصممين أكفاء، كما أنها تناولت بصفحاتها شتى أنواع المواضيع، التي كان يجد بها كل أطفال السودان شخصياتهم مجسدة على صفحاتها، وكان لأساتذة شعبة اللغة العربية الفضل في ذلك، ومن أبرز الرواد الذين كان لهم الفضل في ذلك، الأستاذ الجليل (عوض ساتي)، الذي كان يعمل رئيس تحرير المجلة، ومعه الأساتذة جمال محمد أحمد، وبشير محمد سعيد، وآخرون من أساتذة معهد المعلمين العالي في بخت الرضا، الذي أقيم بمدينة (الدويم) جنوبي مدينة الخرطوم بالنيل الأبيض .
• بريشتك وأفكارك وأشعارك، استطعت تطوير شخصية العم (تنقو)، برغم أن الكثير من الفنانين قاموا بالتناوب على رسمها... لكن كيف ارتبطت بك وحدك؟
- حقيقة؛ أنا أكثر فنان قام بذلك، لأنني وجدت نفسي في هذه الشخصية، وأحببت القيام بمهمة إخراجها وتطويرها، خاصة خلال السنين الأخيرة من عملي كمحرر فني بمكتب النشر، وحتى بعد تقاعدي عن العمل.
• شاركت أسرتك في تكوين فرقتك الموسيقية، بقيادة زكية أبوالقاسم (زوجتك)، فهل كان هذا اختيارك؟ أم كان الأمر برغبتهم وإرادتهم؟
- بما أن كل الأبناء منذ صغرهم يعيشون في جو كله موسيقا وفنون، وجدوا الوالدة والوالد يمارسان والموسيقا والغناء، وكانت الآلات الموسيقية موجودة بالمنزل، ومتاحة للجميع، فشبوا على حب الموسيقا وسماعها. وتعلموا العزف، ونما لديهم الحس الموسيقي.
وفي إحدى المقابلات التلفزيونية، التي كانت تقام أيام الأعياد، قدمنا كأسرة واحدة نماذج من أغنياتي، ففرح المعجبون والأصدقاء بذلك، إذ أعجبوا بما قدمه الأبناء من مشاركة ناجحة في عدد من المقابلات، وهنا أتت فكرة تكوين فرقة مكونة من أعضاء، وهم عائلتي، الأم والأبناء فقط. وكان الحلم بأن تباشر المجموعة العمل بشكل احترافي، ولكن لم تتمكن من ذلك، حيث كان لا بد من التحصيل والدراسة أولاً، ثم النظر في الموضوع لاحقاً، ولكن مازال حلم الاحتراف موجوداً. وطبعاً كانت هذه رغبة الجميع، ولحبهم الموسيقا والفن بشكل تلقائي.
• حصلت على العديد من الجوائز والتكريمات، فما أبرزها؟
- من أبرز هذه التكريمات، نلت وسام النيلين الذهبي، والدكتوراه الفخرية في الفن والآداب من جامعة الأحفاد، والدكتوراه الفخرية من كلية الفنون الجميلة من جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، في العام (2013م)، وجائزة الأديب الراحل الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي، في دورتها الثانية عشرة، والميدالية الذهبية من الإمبراطور (هيلا سيلاسي) ملك إثيوبيا في مطلع الستينيات (1962م).
• حدثنا عن نشاطك التشكيلي والمعارض التي شاركت فيها أو أقمتها منفرداً؟
- كان كل عملي التشكيلي مركزاً، منذ التحقت بمكتب النشر، في إخراج وتصميم كتب ومجلات الأطفال، خاصة مجلة الصبيان، وشخصية العم تنقو، ولكنني كنت أرسم اللوحات من وقت لآخر. وبدأت بإطلاق سراح لوحاتي، وبدأت تكملة بعض اللوحات التي لم تكن قد اكتملت، وأعلنت انتمائي لاتحاد التشكيليين السودانيين، وأسهمت معهم في عدد من المعارض الجماعية، في عدد من أماكن العرض بالخرطوم، وأقمت أول معرض منفرد في العام (1998م)، في المركز الثقافي الفرنسي بالخرطوم، ومعرض جماعي خارج الوطن، وكان ذلك في مدينة أديس أبابا في إثيوبيا عام (2007م)، كما أقمت معرضاً منفرداً في دولة قطر بقاعة نادي الجالية السودانية في الدوحة، وأيضاً للمرة الثانية أقمت معرضاً منفرداً بنفس الصالة، ومازلت إلى الآن أرسم لوحات، وأستعد لإقامة معرض، قريباً إن شاء الله.