نافذة الثقافة العربية

للأدب والفنون قدرة على التغيير

خيـري الـذهـبـي: الإبـداع مثل عسل النحل خلاصة الشعوب

الكاتب : ممدوح عبدالستار

المزيد من المواضيع للكاتب
العدد الواحد والأربعون Mar, 01 2020

الروائي السوري خيري الذهبي يعيش ليكتب، زاده الحكاية، وآلام الناس وأفراحهم، يوثق سوريا القديمة بحكايتها الحديثة، ويلتهم الماضي بحب، لينتج عسلاً لحكايات البشر في كل مكان، ويجعل من المكان بطلاً، ويحاصرنا بالمدهش، وبالسؤال، ويتركنا لحياتنا البسيطة ومعنا حكاياته لرحلتنا في الحياة الصعبة، ويذكّرنا بهويتنا دائماً.

استطاع بنبل وشرف أن يجعلنا حكايته، ونكون له حكايته الدائمة. حصل على جائزة القراء في كل مكان، وأيضاً على جائزة ابن بطوطة لأدب اليوميات... له العديد من الروايات، منها رواية ثلاثية التحولات (حسيبة- فياض- هشام أو الدوران في المكان)، ورواية(الإصبع السادسة، ورقصة البهلوان الأخيرة، وفخ الأسماء، وصبوات ياسين)، وغيرها. التقت به مجلة (الشارقة الثقافية)، وكان لنا معه هذا الحوار: 

¯ حصلت على جائزة ابن بطوطة لأدب اليوميات بكتاب (من دمشق إلى حيفا 300 يوم في فلسطين)، حدثنا عن تجربة أسرك لدى الإسرائيليين، وما الذي لم تذكره في هذا الكتاب؟

- هذا الكتاب هو من الكتب المفضلة لدي، فلقد تمنعت عن كتابته أكثر من أربعين عاماً، وحينما انتهيت من كتابته، شعرت براحة كبيرة، كمن أزاح عن صدره قصة كان لا بد أن يرويها. في عام (1973)، كنت أؤدي خدمتي الإلزامية في سوريا، فقامت حرب تشرين، حيث كنت على رأس الجبهة، ضابطاً في الأمم المتحدة، ممثلاً عن الجيش السوري في لجنة فك الارتباط الأممية، وكضابط أمم متحدة سوري، كنت أظن أن لدي حصانة معينة، ولكن الحرب فرضت قواعدها، وما هي إلا أيام حتى اكتشف الإسرائيلي، أنني أتواصل مع الجيش السوري، وأتابع إحداثيات الحركة على الجبهة، حينها تم اعتقالي، وأسري لمدة عشرة أشهر، قضيتها في فلسطين التي كنا نسمع عنها همساً، وفجأة وجدت نفسي في قلب (فلسطين المحتلة) في قلب المعركة، أسيراً، وحيداً، وهناك حصل ما حصل، يجب عليكم قراءة الكتاب كي تعرفوا البقية.

¯ عن دار سرد، وممدوح عدوان، أصدرت حديثاً رواية بعنوان (لو لم يكن اسمها فاطمة)، ما هي الأحداث التي عشتها، والوقائع التي جعلتك تشرع في كتابة هذه الرواية؟، وما هي أطروحات، وأفكار هذه الرواية؟ وهل هي عن قضايا المرأة كما هو واضح من العنوان؟

- رواية (لو لم يكن اسمها فاطمة) صدرت في عام (2005)، في دار الهلال القاهرية، واليوم نحن نحتفل بصدور طبعتها الخامسة، بطبعة مشتركة بين داري سرد وممدوح عدوان، اللتين تمتازان بكونهما أعادتا للنشر مفهومه الحقيقي في التواصل مع الكاتب، وإعادة دور المحرر للحياة الأدبية بعد عقود من تحول دور النشر لمتاجر بيع وشراء.. أما بالنسبة للرواية فهي تحية وإصبعا نصر مرفوعان في وجه العالم، تحية للمرأة العربية والسورية، تلك المرأة التي خاضت صراعاً عجيباً بصمت كبير، في سبيل نيل حريتها من العالم المقيد لها، الذي تعيش فيه، فاطمة هي امرأة شرقية جميلة قبل كل شيء، مفتونة بمشمش رونقها وفتوتها، بجسدها وشعرها، الذي يميزها عن البقية كأنه هدية من الرب لها، بدأت حياتها بصنع أسطورة هي نفسها لا تعرف كيف صارت، وهي أنها خرجت يوماً من بيتها بطولها الفارع لتقضي حوائجها، فإذا بالجنود (السنغال) يطاردونها وهم يهتفون (فاتيما)، وهذا الاسم هو الاسم العربي الوحيد الذي يعرفونه، كونهم يعملون في كتيبة الغرباء في الجيش الفرنسي، فأحست بأنها هي الوحيدة المقصودة، فأحرجها الأمر، وأقسمت ألا تخرج من البيت طالما هناك جندي سنغالي، وهي تقصد محتلاً فرنسياً.

وهنا تبدأ إشكاليتها، لأنها الوحيدة التي تتحدى الاحتلال، فتصبح حدثاً صحافياً ينطلق من دمشق إلى بيروت إلى الإسكندرية إلى الصحافة، وحينما يأخذون صورة قديمة لها يصنعون لها رتوشاً، فتتحول إلى (غريتا غاربو) ثم تصبح (جان دارك) وإذا بالناس الذين يريدون الحصول على رمز يحصلون عليه من خلالها، فتصبح رمزاً حقيقياً.

¯ الروائي، والقاص موجود بأشكال مختلفة في أعماله، هذا يجعلنا نبحث عن بدايتك، ما هي العوامل والمؤثرات التي جعلت منك روائياً، ومن ساعدك؟ وهل سيرتك الذاتية تتخلل أعمالك، وما هي طقوس الكتابة لديك؟

- هناك نوعان من الكتّاب، نوع يلجأ للنبش في أعماقه بحثاً عن شخصيات شاهدها، أو سمع عنها، أو مرت بجواره، ونوع يعملون على التخييل الروائي والطيران فوق العالم الذين يعيشون فيه، بحثاً في عوالم أرحب، أما عن تجربتي فلقد مررت بالمرحلتين، مرحلة النضح من بئر عالم ثري حتى الترف، مملوءة بالقصص و الروايات والشخصيات العجائبية، شخصيات (الحارة)، حيث ولدت برفقة عشرات الناس، وكل منهم هو قصة بحد ذاته، ذاك الذي خاض حرب (السفربلك) وها هو طريح الفراش يبحث عن موت هانئ، ومن ذاق المجاعة الشهيرة، ومن دخل الحرب ضد العثمانيين، ومن خاض حرب الاستقلال، ومن تزوج عشرات المرات، ومن مات زهداً بحثاً عن سلام روحي، شخوص وقصص شكلت عموداً لرواياتي الأولى تتويجاً بـ(الثلاثية الكبيرة)، التي وضعت فيها دمشق على طبق مكشوف، وفتحت الصناديق الدمشقية المقفلة منذ عقود وربما قرون، (ثلاثية التحولات) التي طافت مع عائلة واحدة لثلاثة أجيال، ورصدت تحولات هذه العائلة، وبالتالي تحولات المجتمع السوري والدمشقي مع محيطه ومع العالم. بعد تلك المرحلة، توقفت لسنوات عن الكتابة، حيث كنت أبحث عن معنى التأصيل الروائي في الرواية العربية، ومعنى أن يكون للرواية العربية ما يميزها عن الرواية العالمية، مثل الرواية اللاتينية أو الرواية الصينية أو الإنجليزية، وهكذا بدأت بتحول كبير في معماري الروائي، انتقلت فيه إلى الينابيع، حيث المصادر الأولى للشخصية المشرقية، التي لم يطرأ عليها أي تغيير منذ ألف عام، تغيير بمعنى جوهري وليس شكلياً.

¯ التجريب لديك قائم على لعبة التوثيق.. المستند إلى نسخ الحكاية، واكتشاف أوجه أخرى لها، هل هذا مقصود بحد ذاته، أم أن فكرة الرواية، وفلسفتها هما اللتان تساهمان في شكل الرواية، وكسر الأنماط القديمة منها؟ 

- على العكس تماماً، التجريب لدي هو في الخلق لغير الموجود، ومحاولة الابتكار الدائمة لمعالجات وحبكات وشخصيات وشخوص غير مألوفة، ربما أستعين بالتاريخ كخلفية للأحداث، ولكن المقصود واضح وراهن ومعاصر، التاريخ والجغرافيا عنصران أساسيان في الحكاية المركبة، الحكاية ذات الطبقات المتراكبة، التاريخ هو الأرضية والمرجعية للشخصيات المعقدة، غير المبتورة من ماضيها، البعد الملحمي للرواية يرجع ويرجع إلى الخلف، حتى يصل إلى جذوره التاريخية، وأنا أعمل على هذه الملحمية في الروايات المعاصرة، وإذا قمت بدراسة حقيقية لرواياتي ستجد بنية تجريبية جريئة جداً، بنية غير تقليدية مطلقاً، الرواية السهلة فن مشروع، ولكن الرواية المعقدة والمتراكبة هي فن آخر تماماً، تتداخل فيها الحبكات عبر الزمن الحلزوني تارة وعبر الحاضر والماضي تارة أخرى، كي تنتج متعة سردية تصب في مصلحة الرواية.

¯ هل تجد الفن والإبداع ضرورة لك، وللمجتمع؟ وهل تعتقد أن الأدب، والفن لهما دور في تغيير الواقع السوري؟

- كما قلت لك أنا أعيش لأكتب، هي مهنتي الأثيرة، ولدت لأسرة تمتهن العمل الذهني، وأنا قضيت نصف قرن أكتب، ربما كتبت آلافاً من الصفحات بل عشرات الآلاف، الكتابة داء، وهي الدواء، في هذا العالم الرهيب الذي نعيش فيه، تصبح هي طوق النجاة، الوهم الذي نختبئ فيه، الكتابة هي أن ترفض العالم القاسي الذي نعيش به، ومن ثم تخلق عالماً موازياً أكثر أمناً، وأقل حزناً، وفوضى وقسوة، الكتّاب مسالمون حتى لو مارسوا العنف في كتاباتهم، الكتّاب سلاحهم قلم أعزل وورقة بيضاء، لا يمتلكون سوى خيالهم، الكتّاب مثل الأطفال الذين يتخيلون أصدقاء وهميين، هم على الدوام في عالم موازٍ. 

¯ يمتاز الأدب الغربي باللغة المحددة، والمكشوفة، هل الكتابة بهذه الطريقة هي المناسبة للمرحلة التي تمر بها البلاد العربية، لنكشف أنفسنا، ونتخلص من وهم المجاز؟

- مع الأسف هذا هو الأدب الغربي الذي يصلنا مترجماً، أما الأدب الحقيقي الغربي، فهو يزداد تعقيداً ويزداد تجريباً، هم وصلوا لمرحلة مخيفة في التجريب، انظر أعمال أمبرتو إيكو المتراكبة مثل متاهة، أو أعمال ميلان كونديرا التي تختصر الثقافة الغربية بالكامل، وإن أحببت راقب أعمال طارق علي، أو بول أوستر، أو حتى أمين معلوف، هي أعمال حمالة للتأويل وليست بسيطة أو أحادية البعد، الأدب الجيد هو الأدب الذي يجعل القارئ يفكر، والمجاز هو التخييل، هو الابتكار، وهو ما يميز اللغة البسيطة العادية عن اللغة الفنية.

¯ الواقع أكثر عبثية الآن، حتى إن خيال الكاتب لا يضاهي الواقع، ما هو - إذاً- دافع الكتابة لديك، بعدما شاهدت بؤس الواقع، وعبثيته، وقبحه؟ وهل ما تكتبه ينتمي لأدب الحرب؟

- هدف الكتابة الأساسي بالنسبة لي، هو القص، أنا أعيش لأكتب، ولا أكتب لأعيش، ربما كانت الحرب هي القشة التي قصمت ظهر الرقابة الداخلية لدي، ولكنني اليوم أكثر قدرة على القص والسرد، ولدي من الحكايا المئات، وربما لا وقت لديّ لأكتبها، هنالك الكثير من الأمور، التي يجب على العالم أن يدركها عن سوريا، عن دمشق، عن الحارات والبحرات، عن الخوف في ظلام الزواريب الدمشقية، عن الفرح تحت شمس ونعيم البيت السوري، عن الظلم الذي تعرضت له سوريا، عن قوة الإنسان السوري، عن عبقرية المرأة العربية، عن الإبداع الذي لا يضاهيه إبداع في العالم لدى الحرفيين والمزارعين والخطاطين والمنشدين في سوريا، عن التراكم الحضاري في سوريا والمنطقة، والذي أدى إلى تلك الشخصية العجيبة في ذاك البلد الصغير الطافح بالحكايا.

¯ تحاول لملمة الواقع المُبعثر، وتعيد بناءه وفق رؤية فنية، تتيح لك الكشف عن قضايا الوطن والمواطن، وتضعنا أمام سؤال فلسفي قديم، وجديد في آن، لم يستطع أحد الإجابة عن سؤال الهوية. هل استطاعت أعمالك الروائية الإجابة عن هذا السؤال، أم وضعتنا في حيرة مرة أخرى؟ وهل استطاعت الرواية، والقصة أن تلتهم ظاهرة التهميش الاجتماعي، والسياسي، والثقافي داخل بنائها؟

- ليست الرواية هي المعنية بتقديم الإجابات لهذا العالم، هي مرآة... هي جرعة ثقة، أو ربما هي صفعة للمتلقي، الإجابات ربما تكون في الفلسفة عند بعضهم، وعند بعضهم الآخر في الأديان، وعند آخرين في العلوم، ولكن مهمة الروائي هي تقديم عالم موازٍ، عالم شبيه بالحقيقي، لا شيء يشبه الحياة، الحياة أقوى وأعمق من كل الفنون، وكما أنه لا أحد يمتلك الحقيقة، فلا أحد لديه (الجواب)، هناك من يقدم رؤيته وتصوره عن الإجابات ولكنها في النهاية رأيه.