جميلة الماجري؛ شاعرة تونسية معروفة، ولا أبالغ حينما أقول: إنها إحدى أيقونات القصيدة العربية المعاصرة. فلغتها رصينةٌ ومُحكمة، ومفرداتها جزلة، وخيالها غزير، وتعرف الشعر ويعرفها، وتتشبث بالحلم في الواقع وفي القصيدة، كما أن ثقافتها الواسعة، وثقتها بنفسها وبالآخرين، وإخلاصها ووفاءها للمعطيات الإنسانية النبيلة كافة؛ جعلها تصل إلى المتلقي وإلى القارئ، من أسهل الطرق وأيسرها.
ولدت الشاعرة جميلة الماجري، في مدينة القيروان عام (1951م)، وتعمل أستاذة للأدب العربي والترجمة بتونس، ونشرتْ نصوصها وكتاباتها في كثير من الدوريات والصحف العربية. في ديسمبر (2008م)، تم انتخابها رئيسة لاتحاد الكتاب التونسيين، وتعتبر أول سيدة تنتخب على رأس هذه المؤسسة. من دواوينها: (الوجد)، (النساء)، و(ذاكرة الطير)..

شاركت في أمسيات وندوات ومهرجانات شعرية محلية ودولية، وحصلتْ على العديد من الجوائز الأدبية المهمة، من بينها: (جائزة وزارة الثقافة التونسية 1995م)..
• ولدتِ ونشأتِ في (القيروان)؛ هذه المدينة التونسية الخالدة، التي أسسها القائد العربي عقبة بن نافع، بعد الفتح الإسلامي لشمالي إفريقيا. حدثينا عن تأثير تلك المدينة في إبداعك، وكذلك عن مدى ارتباطكِ بها والحنين إليها؟
- القيروان.. مدينة موحية برمزيّتها التاريخية، وبطابعها المعماري، وروحها، وقد كانت منذ أكثر من ألف سنة، وإلى اليوم؛ مدينة الشعر والشعراء. قيل فيها الكثير من الأشعار من أبنائها، ومن غير أبنائها، ولا سمها موسيقا ورنين وإشعاع. عُرفت بأعلام خالدين: الحصري، وابن رشيق، وابن شرف.. ونافست أدبيّاً وحضارياً بغداد وقرطبة. إنّ لها أسراراً تشدّ إليها، ومازال شعراء اليوم يتغنّون بها، ويرد اسمها في ما يكتبون، فلا غرابة إذاً أن أكون واحدة منهم. لقد ولدتُ في أقدم وأعرق أحيائها، وتشبّعتُ من إرثها الأدبي والروحيّ والحضاري، وأوحت لي وماتزال تقول في إحدى قصائدها:
قال القصيد؟
فقلتُ: ما اكتملا
أحاولُه.. ويمضي في تمرده
عنيد.. كلما واعدتُه.. مطلا
بسطتُ له من البرديِّ أفرشةً
لأكتبه
بحبر الروح.. من ظمأ
فلم يشرب ولا نهلا

• بدأتْ علاقتكِ بالأدب في سن مبكرة، عندما اكتشف معلمو المدرسة الابتدائية تفوقكِ في مادة الإنشاء. بهذه المرحلة؛ لمن قرأتِ، ومن له الفضل لكي تنتعش ذائقتكِ؟
- منذ بدأتُ أعي جمال النصوص الأدبية، في كتب المناهج المدرسية؛ نشأ لديّ شغف خفيّ وحسّ قويّ بالأدب، شعراً ونثراً، وأقبلتُ بلهفة شديدة على القراءة والمطالعة، وحدثت بيني وبين الكتابة علاقة حب خاصة، وبدأ المعلّمون في مادة اللغة العربية والأدب يشجّعونني، ويشيدون بموهبتي. ثمّ صرت أبحث عن الفرص التي تمكنني من ممارسة هوايتي، وتعطّشي للكتابة، والنهل من ينابيعها، فالتحقتُ بالنوادي المدرسية، ونادي الأدب بمدينتي.
في تلك الفترة، أي فترة الستينيات؛ كنّا في الابتدائي نطالع قصص المكتبة الخضراء، وقصص كامل كيلاني، ومحمد عطية الإبراشي، ثمّ مررنا على روايات المنفلوطي، وجرجي زيدان. وخلال المراهقة؛ كان الشغف بروايات يوسف السباعي، وإحسان عبدالقدّوس، ومحمود تيمور، ثمّ جبران، ونعيمة، والأدب الرومنطيقي، كما شغفتُ بقراءة الشعر، وكان أوّل ديوان أمسكتُ به؛ ديوان أبي القاسم الشابي، إلى جانب ما كنا نتمكن من الاطلاع عليه في الكتب المدرسية، مثل قصائد الرصافي، والزهاوي، في الابتدائي. وفي الثانوية؛ جاءت مرحلة النضج والاختيار، واكتشفنا أنا وجيلي؛ الشعر القديم والأندلسي.
في نادي الأدب انطلق وعينا، بشعراء الحداثة المصريين، والمدارس المصرية والعراقية واللبنانية. بعد هذا؛ تطوّرت القراءات، وأقبلتْ مرحلة الكتابة الواعية والنشر، ولا بدّ من الإشارة، إلى أننا في جيلي بتونس؛ شغفنا للغاية بالأدب الفرنسي، ونهلنا منه في كلّ فترات تاريخه شعراً ورواية، وتقول:
سلاماً لبوح الحجارة في صمت قرطاجَ
لاحت كما راهب في جلال الصلاةْ
سلاماً..
لـ (ديدونَ) وهي تروّض عنف البحار
وتُرسي على ضفة الذكرياتْ
فلو قلتَ (قرطاج)
من صُورَ جاءت إليك المراكبُ
والبحرُ تسكن أمواجه
ينتشي بالنشيد القديم
وأصوات بحارة من بعيد
تردد: قرطاجُ.. قرطاجُ.. قرطاجُ

• في الجامعة، وبالتحديد عام (1974م)، كنتِ أول امرأة تقرأ نشرة أخبار بالتلفزيون التونسي.. ماذا تقولين عن هذه التجربة؟
- كانت لي تجربة إعلامية متميزة منذ كنت في الجامعة، فانطلقتُ من خلال الإذاعة وشاركتُ في نتاج العديد من البرامج، ثمّ من التلفزيون في برامج منوّعات، ثمّ كمذيعة النشرات الإخبارية، فكنت أوّل قارئة أخبار باللغة العربية، وعدتُ إلى إنتاج برامج ثقافية ووطنية لأكثر من عشر سنوات، من أواخر التسعينيات إلى عام (2010م).
• منذ صدور مجموعتكِ الشعرية الأولى (ديوان الوجد 1995م)، وحتى الآن؛ كيف تنظرين إلى مجمل أعمالكِ في هذا الوقت الراهن؟
- من الطبيعي أنّ تجربة الكتابة واستمرار ممارستها لدى كلّ كاتب؛ لا بدّ أن تتطوّر، وكلّ كاتب واعٍ ودائم الاطلاع على تطوّر أنماط الكتابة، وحريص على القراءة، والسعي لتوسيع دائرة ثقافته وقراءاته؛ عليه أن يسعى إلى تحقيق الإضافة، والاختلاف، وإنجاز الجديد في ما يكتب. لذا؛ يمرّ أحياناً بفترات صمت للتأمّل، والتوقّف عن النشر.
• أنتِ مديرة بيت الشعر في (القيروان) منذ تأسيسه قبل ما يقرب من خمس سنوات، وهو الآن وجهة ومقصد للكثير من الكتاب والشعراء والمثقفين التونسيين. نود أن نطوف أكثر هنا؟
- تجربة بيوت الشعر، التي أطلقها صاحب السمو حاكم الشارقة، منذ ستّ سنوات؛ هي تجربة اتضحت ملامحها، وأصبحتْ تحقق أهدافها في الاهتمام بالشعر والشعراء، واستقطاب أعداد كبيرة منهم، وإفساح المجال لمختلف الأجيال والاتجاهات الشعرية.
بيت الشعر بالقيروان؛ صار وجهة مرغوبة ومطلوبة من شعراء تونس، ومن كلّ أرجائها، كما يحرص على تنويع نشاطاته في مجال النقد، بتنظيم ندوات ودراسات نقدية، وإصدارات توثق لهذا، واحتضان المواهب الشابة، وتدريبها على الكتابة الشعرية، وتعليم العروض. لقد تكوّن للبيت جمهور وفيّ، يرغب باستمرارٍ في مواكبة أمسياته.

• قمتِ بزيارة عدة عواصم ومدن. ماذا عن أهمها لديكِ؟
- زرتُ معظم البلدان العربية مرّات عديدة، وأيضاً البلدان الأوروبية بدعوات ثقافية وشعرية، وكثير منها أوحى إلي، وكتبت عنه شعراً ونثراً. لكلّ بلد أثر في نفسي، وإنني أتواصل تواصلاً روحياً قوياً مع الأماكن، وتقول في ذلك:
أتوْها قادمين من الأقاصي
مباركة خطاهم حيث حلّوا
وقالوا نبتغيها قيروانا
بها لله آيات وفضلُ
وهم سطروا لقبلتها اتجاهاً
وهم رصوا الصفوف بها وصلّوا
• أين أنتِ من النقد ومن النقاد؟
- علاقتي بالنقد طيّبة جدّاً، ولا أشكو من تقصير في هذا الصدد، لأنني حظيت باهتمام كبير وواسع بما كتبتُ، إذ نُشرت عن تجربتي دراسات نقدية، وبحوث، وشهادات جامعية في تونس، وفي الوطن العربي.