قبلُ، حين تجشَّم السارد العليم (عبدالعليم حريص)، في روايته الأُولى (كوم خادم)، مشقّة التوازي الإجرائي بين النص (البوليفوني)، متعدد الأصوات، والمنفسح على الملحمة، إلى التوليدات الحكائية، الأقرب إلى (السيرغيرية)، والتي تنبجس من تضاعيف السرد، كما لو أنها لقطات وامضة.. قد تكتمل حيناً، وقد تتخلّى عن مصائرها الدرامية أحايين أخرى.. تاركةً أبطالها في درب المتاهة الوجودية.. فاتحةً الباب للتخييل المُشعْرن باللغة، وما تحتمله من (ميتافورا) المعنى والمبنى.

يسجل السارد حالة مكانية في قرية من قرى الصعيد المصري، وهي حالة تنخلع من مكانها الوصفي المحدد، لتتمدَّد مفهومياً وواقعياً في كامل القرى المصرية، المشمولة بتصاريف الواقع وثقافة الـ(ما وراء).
هنا نُمسك بالمعنى الأشمل لما هو خفيّ وأخْفى، في تواريخ الحضارة المصرية القديمة، المؤسسة على فقه الغيوب والماورائيات، بل إننا نمتلك فرصة في التعاطي مع التجسيم رغماً عن سيادة التجريد، فتفيض رمال الأرض وحجارتها وسهولها، بكواشف ساطعة، لكثرة كاثرة من الُّلقى الأثرية، والنصوص السردية المُشخَّصة والمجردة في ذات الوقت.
تلك الثقافة الخاصة، لم تقف عند تخوم الأسلاف من الفراعنة، بل اتّسقت تباعاً مع أديان السماء، ووجدت في فقه أولوياتها المعنى الكبير للإيمان بالغيوب، والتسليم باستتباعاتها العصيّة على الفهم البسيط.
والسارد فيما يعقد مقارناته الضمنية بين قطبي الواقع والخيال، يتمدد في ثنائياتها المتناطحة حيناً، والمتماوجة انسجاماً في أحايين أخرى، حتى إن التملُّك المعرفي والجمالي للنص، يتوه في عالم الثنائيات كما لو أنهما مد وجزر دائمان.

يُحسب للسارد (الحريص)، أنه قدم نصه الروائي الأول، مسافراً في معارج التنويع والتوصيف، ومناجزاً لغة السرد حمّالة الأوجه، الموازية لحوامل المعاني والدلالات.
اللقطات الوامضة والتوليدات الحكائية الضمنية، تنفسح عل شكل من أشكال المونتاج الذهني، وتمنح النص حزاماً مشفوعاً بأجنحة تحليق، صوب معارج نصوص قادمة أكثر جمالاً واكتمالاً.
هذه المرة، نتوقّف أمام تجربة عبدالعليم حريص التالية، في روايته الجديدة بعنوان (الهروب إلى النهار)، وهي بجملتها تأصيل فني لرواية المكان الممتد في الذاكرة، بقدر ما تضيف عناصر درامية تشويقية واضحة المعالم.
من حسنات السرد، أن يتضافر العنوان مع المحتوى، عن طريق المجازات الأكثر رحابة من النص المكتوب، فالعنوان يمنح قارئه حباً للتطلّع، ليعرف كيف نهرب إلى النهار، وكأننا نهرب من الظلام.
هذا المعنى، يتموْضع منذ الاستهلال النصي المجيَّر على كتاب الموتى عند الفراعنة، وهو من أُصول التوحيد التاريخي، الذي يرى في الموجودات والظواهر إرادة عليا تنبع من الإله، وبهذا المعنى سنرى في تضاعيف النص السردي لكاتبه الحصيف عبدالعليم حريص، كيف تبقى هذه المعاني القادمة من علياء التاريخ البعيد وأروقته.. كيف تبقى هذه المعاني في القرية المصرية التقليدية حتى يومنا هذا، فنحن هنا، بإزاء إحياء السرد القصصي الروائي النابت من الريف المصري، بخصائصه المبثوثة في بعض النصوص السردية الاستثناء، كما عند الراحلين الكبيرين: محمد عبدالحليم عبدالله، وتوفيق الحكيم، وعلى سبيل المثال لا الحصر.

يواصل السارد في روايته الجديدة، درب الأسلاف الكبار، ليقول كلمته في مجتمع الريف المصري، ذي الخصائص الوجودية والميتافيزيقية الباذخة.
ينطلق السارد في نصه من دِقّةٍ وصْفيةٍ للمكان، ليعقد مقارنة لمّاحة بين أرض الأحياء وأرض الموتى، في إشارة ضمنية إلى مفهوم الموت عند الأسلاف القدامى، وهو مفهوم لا يختلف من حيث الجوهر عن مفهوم الموحّدين، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين، والشاهد أن الجميع يقف عند حد الاعتقاد الإيماني، بأن الموت انتقال لحياة أخرى، وهو ما يتجسّد عملياً في المساحات المكانية، التي تصل وتفصل بين سُكنى الأحياء ومقابر الموتى، وسنرى أن هذه الفكرة المركزية مبثوثة في ثنايا النص، من خلال البُعد الحكائي المتواتر فيه.

إلى ذلك؛ يعتمد المؤلف على الأوصاف الدقيقة للمكان الروائي، بحيث نجد البسائط الصغيرة جداً في أساس الموصوفات، تُعبِّر عما هو كلي وجوهري في عوالم الزمان والمكان.. ولكي نلمح هذه المثابة، تسعفنا اللغة على الإمساك بها، من حيث كونها لغة فصحى بيضاء، لا تقعير فيها ولا التواءات فلسفية.
كما نتابع في تفاصيل النص، العديد من أوجه الاستعادة لمعقول اللامعقول، في الحياة الريفية المصرية، من حيث كونها حياة موصولة بالمُغيبات، والواقعية السحرية، والاطمئنان الموصول بالعقيدة.
بهذا العمل يتقدّم الروائي المنحاز لبيئته، خطوة إلى الأمام، مُمْتشقاً درب المكابدات المعرفية الذوقية، مستعيناً بذخيرة الذاكرة الغنية، لأهل الصحراء والبراري والقفار، لنتأكد مجدداً أن الرواية ليست ابنة المدينة بالضرورة، كما ذهب الإسكولائيون الأوروبيون، ولكنها أيضاً ابنة المكان، أياً كان هذا المكان، كما رأينا عند الروائي الكبير إبراهيم الكوني، في مُناجزته الإبداعية لأسرار الصحراء وسحرها، وجابرييل جارسيا ماركيز، في تحليقاته الكاريبية الفاتنة.
ورواية (الهروب إلى النهار)، هي ثاني عمل روائي لعبدالعليم حريص، صدرت حديثاً عن دار الكنزي (أفضل ناشر مصري 2022م)، جاءت الرواية في (175) صفحة من القطع المتوسط.
ويشار إلى أن عبدالعليم حريص، كاتب وصحافي مصري، مقيم بالإمارات، نال عضوية اتحاد كتّاب مصر، والإمارات. صدرت له رواية (كوم الخادم)، وأربعة دواوين شعرية. شارك في عدة أمسيات ومهرجانات أدبية وثقافية على مستوى الوطن العربي. كُرّم من قبل عدة جهات محلية وعربية، وترجمت بعض نصوصه لعدة لغات.