نافذة الثقافة العربية

جرأة الاختيار داخل رؤية إخراجية واضحة

فرقة (دوز تمسرح) تتألق في عرض صباح ومسا

الكاتب : ياسين عدنان

المزيد من المواضيع للكاتب
العدد الرابع والثلاثون Aug, 01 2019

نجحت فرقة (دوز تمسرح) المغربية في إهداء الجمهور المسرحي العربي لحظة حوار مغربي فلسطيني خلاقة، وهي تشتغل على نص (صباح ومسا) للكاتب الفلسطيني غنام غنام، وإخراج المسرحي المغربي عبدالجبار خمران. حوار آخر مُواز بين المسرح والرقص المعاصر هذه المرة حققته الفرقة، حينما نجحت في استقطاب الكوريغرافي المغربي المعروف توفيق إزديو، وإقناعه باعتلاء خشبة المسرح ممثلاً هذه المرة لا راقصاً. كل ذلك في مغامرة فنية صنعت الحدث في أكثر من مهرجان وعلى أكثر من خشبة.

من المسرحية

فقد شاركت الفرقة المغربية الشابة بمسرحيتها الجديدة (صباح ومسا) في العديد من التظاهرات الوطنية والعربية، منها النسخة (11) لمهرجان المسرح العربي بالقاهرة، والدورة (20) لأيام قرطاج المسرحية، وعلى خشبة المسرح الوطني بالعراق، في إطار أيام بغداد المسرحية الأخيرة، ثم في الدورة الرابعة للمهرجان الدولي للمعاهد المسرحية بالرباط، وأخيراً في مهرجان طنجة للفنون المشهدية. أما الراقص ومصمم الرقصات توفيق إزديو؛ فقد فاجأ الجميع وهو ينتزع جائزة أحسن ممثل في الدورة (20) للمهرجان الوطني للمسرح بتطوان، من أمام نخبة من نجوم المسرح المغربي.

في عرض (صباح ومسا) نحس كما لو أن المسافة بين الصباح والمساء قد ألغيت تماماً. لم تكن هناك مسافةٌ بين الصباح والمساء، كانا متعانقين في المسرحية، تماماً مثل قهوة مغربية بالحليب. كذلك كانت الشخصيتان (صباح) و(مساء) في هذا العرض الذي يحكي قصة لقاء مصادفة على ما بينهما: امرأة تلتقي مصادفة برجل، ولا يعرف أي منهما لماذا قصد الآخر ذات المكان الهامشي البعيد عن صخب المدينة. وسرعان ما انخرط الغريبان في جس نبض بعضهما بعضاً. حوار متلعثم بدأ بالارتياب، ارتياب كل طرف من الآخر، تطور إلى شك في أنهما ربما على معرفة قديمة ببعضهما بعضاً، وهو الاحتمال الذي اكتشفنا مع تطور الأحداث عدم صحته. لكن مع تطور الأحداث أيضاً، سيتأكد للشخصيتين، وللجمهور معهما، أن الحبّ قد تسرب إلى قلبيهما. حب معقد ملتبس بين شخصيتين غريبتي الأطوار، سنكتشف مع نهاية المسرحية، أن كلاً منهما يحمل جرحاً خاصاً، انزوى في هذا المكان الهامشي ليلعقه بعيداً عن المجتمع والناس. فـ(صباح) أنهت للتو حكماً بالسجن (15) عاماً بتهمة قتل، فيما كان (مسا) مجنوناً هارباً من مستشفى الأمراض العقلية.

توفيق إزديو، المصمّم الكوريغرافي الذي يقف لأول مرة على الخشبة ممثلاً، أدى دور (مسا)، فيما عاد دور (صباح) لرجاء خرماز، التي أكدت أنّ حضورها القوي في العمل الأول للفرقة، مسرحية (الخادمتان) التي أخرجها المسرحي العراقي المعروف جواد الأسدي، لم يكن محض مصادفة، بل وعداً بمسارٍ مضيءٍ لنجمة قادمة. والتخوف المشروع على توفيق الممثل من الراقص الذي يسكنه، سرعان ما تلاشى، لأن الطريقة التي أديرت بها حركة الممثل جعلت الراقص فيه يتحرّك بحساب، لا ينزلق إلى استعراض مهاراته، بقدر ما يستغل إمكانات جسده التعبيرية، لتعزيز حضور الممثل فوق الخشبة. ورجاء، وجدت الفرصة مواتية لترقص بدورها، لتكتشف أنّ جسد الممثل في حاجة للرقص هو الآخر لكي ينطلق. 

هكذا صار الرقص سيّد خشبة (صباح ومسا).. سيّداً حكيماً عرف كيف يسود دون أن يستبدّ. ربما لأن عيني الفنان الموسيقي والممثل زكريا حدوشي، كانتا هناك تراقبان الوضع من فوق الخشبة. فالموسيقا كانت تُعزف أمام الجمهور وليس في الكواليس كما جرت العادة بذلك. أيضاً، كان زكريا، من حين لآخر، يغادر مجلسه فوق الخشبة، حيث تصطف الآلات الموسيقية أمامه، ليسهم في التمثيل، ثم يعود إلى دوره الأساسي كمؤلف لموسيقا العرض، وتكلف بأداء موسيقاه بنفسه عازفاً على أكثر من آلة للوفاء بهذا الغرض. 

كان هدوء زكريا حدوشي عميق التأثير.. بدا هذا الفنان الشامل مثل عميد فريق محنّك، يجيد مصاحبة نجومه على رقعة الملعب. كان زكريا منخرطاً في العرض، يبدو للوهلة الأولى على هامش اللعب، فيما هو في القلب منه، بل عرف في أكثر من مشهد كيف يُحوّل الحاشية إلى متن، كيف يسرق انتباه الجمهور ليترك المتفرجون الحوار مشتعلاً، والرقص محتدماً وسط الخشبة، ويتجهوا إليه لمراقبته وهو يُشْعل هامشه المركزي، وهو يعزف على أكثر من آلة ويحاكي أكثر من صوت، ويُدَوْزِن حتى الصرخات.

في (صباح ومسا) كان نص الفنان المسرحي الفلسطيني غنام غنام، يحضر بمقدار، عبر حوارات مجتزَأة. ولعل الرؤية الإخراجية للمخرج المغربي عبدالجبار خمران، كانت واضحة منذ البداية. النص ليس أكثر من ذريعة. ليس أكثر من خُصلة شعر، وجمال الضفيرة من تعدّد الجدائل والخصلات. لكن الطريقة التي تقاسم بها الممثلون الثلاثة أداء حوارات النص كانت ذكية. جعلت الحوار يتشظّى، يتماسك فيما يتشظّى. الحوارات لا تُلقى جزافاً.. كل حوار يصلك مسنود بحركة، برقصة، بنشيج كمان. كان النص ذريعة للعرض، لكن كل الخصلات الأخرى المجدُولة معه جاءت لتعزّز موقف النص وتدعمه. إنه ذريعة مفحمة. وما كلُّ الذرائع كذلك.

أما بالنسبة إلى السينوغرافيا، فقد صدر يوسف العرقوبي، في مقترحاته السينوغرافية عن تشبّع جيد برؤية المخرج، ما مكنه من أن يوفّر للممثلين الثلاثة المساحة الكافية ليتحركوا بحرية في فضاء معاصر مُنار بطريقة جيدة. فضاءٌ تمّ تصميمُه بطريقة تتيح للممثل أن يرقص جالساً، وأن يُرقِّص معه حتى الديكور والإكسسوار، وتتيح للمطر أن يسقط مُضيئاً ومُضاءً، ولهامش المغنّي أن يتحوّل إلى مركز الخشبة حين يلزم الأمر. مصطبة ومصباح ودُمى، والباقي مجرد تفاصيل. لكن، هل الإكسسوارات مجرد تفاصيل؟ والكثير من لحظات العرض القوية صنعتها هذه التفاصيل بالذات.

وأخيراً؛ ماذا عن المخرج عبدالجبار خمران؟ بعد النجاح الكبير لمسرحية فرقة (دوز تمسرح) الأولى (الخادمتان) التي أخرجها العام الماضي الفنان العراقي المقيم بمراكش جواد الأسدي، اعتبر بعضهم تصدّي عبدالجبار خمران للإخراج في ثاني أعمال فرقته المسرحية حديثة التأسيس مجازفة، خصوصاً بعد بداية قوية مع الأسدي، رفعت فيها الفرقة السقف عالياً. ثم حينما اختار خمران الفنان توفيق إزديو لأداء دور رئيس في مسرحيته، هو الكوريغراف المحترف الذي لم يسبق له أن جرّب التمثيل، زاد التخوف من أن روح الرجل التجريبية قد تُغرِّر به. لكن أغلب من شاهد العرض في مختلف المحافل المسرحية العربية، التي مر منها حتى الآن، تأكد له أن ما ينقص العديد من مخرجينا العرب يتوافر عليه عبدالجبار خمران؛ الجرأة في الاختيار، جرأة تذهب إلى حدود المجازفة، لكن من داخل رؤية إخراجية واضحة التوجه والمعالم. وقد برهن خمران، في هذا العمل المسرحي، على ذكاء ملحوظ في معالجة النص وإدارة الممثلين، وتمكن كبير من الرؤية الدراماتورجية العامة، التي اختارها لمسرحيته في مختلف أبعادها الجمالية والتقنية.