عندما تنهي قراءة رواية وحيد غانم (الأميرة في رحلة طائر العقل) (دار نينوى، ٢٠١٩) فإنك ستسجل في مفكرتك أنّك أنهيت يوماً من أيام القراءة المنصورة. والعبارة الأخيرة مستوحاة من عبارات الرحلة العجيبة بين الجبل والسهل والغمر، للبحث عن موقع الأميرة البهائية (خزال) أو (ثريا أفلاطوني) ذات الصفات الروحانية والجسدية المهلكة. وستسجل عبارةً أخرى تعترض قراءتك: (إنّ التفكير بالموت يجعل الإنسان متواضعاً كالأفعى) كلما نجا بطل الرواية شفيق الحلوجي من موت محقّق على أيدي أعدائه المتكاثرين، الذين يكرهون الحكم (الباغدي) الذي ينتمي إليه، ويناوئون مشروعه في مدّ سكة قطار الشرق على أراضيهم.

تسببت الرحلة الطويلة (٣٩٢ صفحة) بأن يتمرد البطل شفيق الحلوجي، على إرادة المقرّ (الباغدي) الحاكم في بغداد الذي اختاره ضابطاً فخرياً في حملة العشرة آلاف محارب بقيادة (الجزّار)، وينحاز إلى المرأة البهائية خزال. كانت مهمة الجزّار تمهيد الأرض لمدّ سكة حديد قطار الشرق، وتأديب المناوئين للمشروع الباغدي، فيتيه بجيشه في القفار؛ بينما انحصرت مهمة شفيق الحلوجي في القضاء على طائفة الأميرة البهائية، فيجد نفسه في مواجهة طوائف الجبل وقطاع طرقه ومهرّبيه، من البازدرية والكاكائية والعلياهية والسهروردية والإيزيدية والماسونية، ثم مع يهودٍ وغجر وبلوش وصابئة، فضلاً عن الوحوش والشياطين والزواحف والطيور والأشباح والأسلحة المسخّرة لخدمتهم. كان عليه أن يجنّد عملاء من هؤلاء جميعاً لمطاردة الأميرة الهاربة، فينتهي بخضوعه لطيفها المرسوم على سجّادة، يحتفظ بها في جيب سرّي بحقيبته. وما يلبث شفيق الحلوجي (الذي يروي سيرته حاكٍ متخفٍّ من المحفل الحكائي الشرقي اسمه رضا الظالم) أن يعود إلى بغداد متخفياً بهوية صديقه الحاكي، التي استعارها منه، فيقع بقبضة قاضي (الباغدية) الكبير ويضعه في سجن (الإنسان)، ثم يسخّره بعدئذٍ لمطاردة رعيان الجزيرة المحيطة بالسجن وتحصيل الجلود منهم، والعمل على دباغتها لصالح مأمور السجن، ولقاء هذه الخدمات يطلق سراحه مع أربعين سجيناً من عتاة المجرمين، ويكلّفون- في القسم الثاني من الرواية- بتعقب بدو الصحراء والصراع مع شيوخهم وقبائلهم المندثرة. وهنا يبدأ جزء آخر من السيرة الحلوانية، فتنتقل تصوّرات الحلوجي نحو طيف الأميرة في الصحراء، بعد أن انتهى القسم الأول برسائل يتبادلها معها بيد وسيطٍ جبلي.
ينتهي القسم الثاني بالعثور على محطة قطار الشرق، في طرف مدرج للطائرات وسط الصحراء. يجلب القطار إلى المحطة أسرى الحملة الباغدية من أطراف الصحراء، ويجمعهم أحد ضباط الحملة في سجن غير حصين، سرعان ما يخترقه الأربعون سجيناً ويسجنون النساء الأسيرات، وقد ظنوا الأميرة المشتهاة بينهنّ. لكنّها، وكما يصرّح شفيق الحلوجي، كانت تصوراً سرابياً من تصوراته التي تتبدل باستمرار ولا تثبت على شخصية أو مشهد أو فكرة. ومادامت الرواية سلسلة من التصوّرات والأوهام المتبدلة، فإنّ الحاكي الشرقي القديم، الذي تنطق هويته بلسان الحلوجي، يعقد فصلاً بعنوانٍ يقتبسه من (هيجو) (إنّه العرق الأسود في الرخام الأبيض) للثناء على بشاعة السجناء، الذين رافقوه في رحلة الصحراء المخيفة ويمتدح جرائمهم، ويصفهم بأنهم (أشخاص بلا ذوات لا ينتظرون سوى وسام الموت)، وأن وجودهم كان ضرورياً (لخلق توازن في الوجود، من خلال شعورهم بعدم أهمية حياتهم). وعلى هذه الوتيرة من التصور الغرائبي والتوهم الخرافي وتسويغ البشاعة والقسوة، تنعقد الفصول الأخرى للرواية (٦٥ فصلاً معنوناً بعبارات دلالية لمّاحة) وتجري الحوارات الجياشة بالمديح والشتيمة، والإجلال والسخرية، في نسق ملتوٍ، مبعثر، يضيع في سرابه أثر الأميرة البهائية، حتى يختفي فجأة في الفصول الأخيرة.
في القسم الثالث من الرواية، تنحدر الرحلة من بغداد إلى أقصى الجنوب، البصرة وسواحل الخليج، حيث يعتقد المقرّ الباغدي، بوجود المحفل البهائي. وهنا يلتقي الراوي الأصلي (رضا الظالم) بأميرته في محل خيّاطٍ يهودي، لكنها تختفي فجأة بعد محاورة قصيرة، ولا تظهر أبداً.
كان قطار الشرق يجلب لبغداد مزيداً من المكادية والأسيرات، اللاتي يقعن فريسةً سهلة للسبي على أيدي رجال المقر الباغدي، وفي مقدمتهم مساعد نائب الجزار (حامد عمشة الجيجاني). وأخيراً يكلّف المقرّ هذا المساعد بتجريد حملة للقضاء على البهائيين ومحفلهم في البصرة، فيصطحب معه الراوي، باعتباره عميلاً باغدياً، إضافة إلى تورطه في مساعدة الجيجاني على سلب المكديات البائسات. هنا يحاول الراوي (المغمور، العاشق، الجاسوس، المغتصب) مع عشرات من صفاته الشيطانية التي يحاول دفعها عن نفسه عبثاً، كي ينفكّ عن ظلّه شفيق الحلوجي (وحش التصورات) ويستردّ صورته المعكوسة في مرآة أميرته وانتزاعها من حبس السجادة المقدسة، التي يفلح الغجر في سرقتها منه.
بدأت حكاية الباغدي (رضا الظالم) بطيئة النبض، مملة وسمجة، إلا أن نبضها المكتوم تحت ركام اللغة الخليطة واللهجات المنقرضة، يبدأ بالتسارع حالما يأخذ العميل الباغدي بالاختلاط مع نماذج سكّان الجنوب العراقي، البدو والغجر واليهود والبلوش، ويجنّد أعداداً كبيرة منهم لتتبع أثر الأميرة. وتبدو المطاردة في هذا القسم أكثر إثارة ومتعة، فالبهائيون أنفسهم يريدون استرجاع وديعتهم المسروقة من عدوّهم، فيتقابل الاثنان في طرح التصورات على القارئ المسلوب من دفاعاته التأويلية، خاصة وأنّ الرحلة في فصولها الأخيرة، تتناثر بدل أن تلتمّ حول بؤرتها العقلية. فجأة نشاهد البطل وقد التقى، في فندقٍ بضواحي مدينة الموصل، شقيق هويته شفيق الحلوجي مرة ثانية، كما تظهر فجأة شخصيات الجبل، التي التقيناها في الفصل الأول، فيقود مهرّبٌ كبير اسمه سامي كرموز، البطل الباغدي إلى أقصى الجبال مرة ثانية. وأخيراً، نصحو من تصوراتنا على (نقيب) تلتبس شخصيته بشخصية البطل الباغدي، يسكن خيمة في خرائب بابل، يقبض جنوده على مفكر ألماني يدعى (هوجو كروته) وضع كتاباً عن سكة قطار بغداد عام (١٩٠٢)، فكأننا نشاركه ذلك الحلم القديم، برحلة تبدأ من أقصى الجنوب العراقي إلى قمم (أرضروم)، وهو حلم يضاهي اعتقاد وحدة البشر عند البهائيين.
فماذا تعني (رحلة العقل) هذه، وهل تستحق اختلاق تصوّراتٍ مجرّدة من حقيقتها وتاريخها الأصلي في القرن الماضي وبداية قرن الاستعمار؟ هل يريد رواة المحافل الشرقية إقناعنا بوجود (عقول) تعيش عصر النور البهائي وتسكن بستانه المغصوب، وتستمر في تصوّراتها حتى اليوم؟ ثمة أسئلة لا يستطيع السرد التاريخي احتواءها بأيّ مسوّغ عقلاني أو تصوّرٍ فلسفي إشراقي. إلا أنّ المتعة العقلية للرواية لا تتوقف برغم تعرضها للاهتزاز والمسخ والغزو والسلب، لأنها نابعة من خيال راوٍ شرقي، يعترف بانفعال حميمي: (كانت أوهام حكاياتنا تستيقظ في داخلي كالنحيب البعيد، لعلها مرحلة النضج المؤلمة من خلال بلوغ مرحلة الصمت الهادر. لم يسبق أن شعرت بإرث أسلافي يخالط دمي كما حدث في تلك اللحظة). بهذه العبارة وغيرها من التوهم ونقيضه (نضج العقل) ترحل بنا الرواية وسط تعاويذ لغوية هشّة وتصوراتٍ روحانية في منتهى الصفاء الشاعري.
أيريد الراوي، أن يقنعنا بأنّ الرحلة العقلية ليست اختلاقاً محضاً، والشخصيات ليست من نسج خيال المحافل الشرقية السرية، سوى ما يلقي قارئ الرحلة في دوار الجبل والصحراء والأهوار، بنوعٍ من الاختبار اللغوي الحر، ابتدعه (وحيد غانم) من اشتقاقات الراوي الشرقي المتصنّع، وألسنة الشخصيات الحوارية الصريحة، ولهجات الأقوام المعزولة ووحيها الجامح وطباعها الجبلية والبرية الجهيرة بالقسوة والعداوة؟ وما هدف الاختلافات اللغوية هذه، إن لم تكن محاولة يائسة للتأثير في القارئ المعاصر، عبر تقمص روح الأميرة البهائية المبتغاة والوصول إلى مخبئها بإكسير الشعر ونصوص العرفان المدسوسة في كتب الباطنية، وأذكار شيوخ الطرق وسحر سكان المقابر، أو عن طريق الاستعانة بحيل الدراويش والمكادية والمهرّبين، على اختلاف مواقعهم وأجناسهم؟ تحتلّ هذه الوسائل الملتوية، الشاهقة والمنحطة، قلب الرواية، على حدّ سواء مع حملة المقرّ الباغدي، الذي لا يفتأ يرسل بالجواسيس المتخفّين وراء البطل المزدوج الهوية، صاحب الأسماء المتعددة والمواقف المتقلبة، ومطاردته، والتآمر على قتله بين مرحلة وأخرى من الحكاية الوعرة.
أعلينا تجاهل العناء والألم والقسوة، التي رافقت طريق حكايتنا بمصادفاتها وتصوراتها؟ لماذا كانت متعة مصاحبتنا البطل الواقع بين مؤامرات الأصدقاء والأعداء، حارقةً إلى أبعد الحدود؟ تزداد حيرتنا من حقيقة هذه الرحلة، فيقطع الراوي المزدوج حيرتنا وأسئلتنا بقوله: (أعلمني أبي أن المحفل الشرقي مازال يعتمد تقسيماً بابلياً قديماً في تصنيف حكايات عالمنا، فيضع الجانب المأساوي في الواجهة في مقابل منبعه الذي هو اللذّة).
أعتقد أن تاريخ الرواية العربية سيغتني برافد دافق من هذا (التقسيم البابلي القديم) فيصبّ في عروق النوع السردي/ التشردي الفنتازي، مدلولاتٍ سياسيةً ودينية وإثنية غزيرة، ويصعّد مستوى موحياته التناصية مع رحلاتٍ عجائبية شتى، عندما يحتسب هذا الإنجاز الروائي في عداد الخرائد النادرة، التي تخفرها مخيلةٌ مقيمة في أقصى المصبّات السردية (لوحيد غانم روايتان سابقتان: المراسيم القديمة، والحلو الهارب إلى مصيره). أما إذا احتكمنا إلى الأماكن المجهولة في جغرافيا العراق الإقليمية، فتعدّ رواية (وحيد غانم) هذه من أوسع المدارات التي غطّت نجاداً وربوعاً وغابات ومفاوز، لم تطأها قدم روائيّ من قبل. وستسجّل روايته في دفتر القراءات على أنها من صنف روايات القفر والقمة واللجّة، التي شقّت طريقها وسط رواياتٍ عالمية عسيرة البناء، مثل: (موبي ديك، اسم الوردة، الطبل الصفيح، وشيفرة دافنشي).