يعتز الشاعر فاروق جويدة بأنَّه فلاح بسيط نشأ وترعرع ككُلّ الفلاحين الشرفاء من أبناء مصر، وهو لا يدعي ذلك زيفاً، ولكن مواقفه وأفعاله تدل على أنَّه لم يفقد، أبداً، صلابة أهل القرية وقوَّة شكيمتهم وفطرتهم التي جبلوا عليها.. لهذا فهو شاعر ثابت الخطى، لا يلين عن رأي اعتنقه وآمن به، ولا يحيد عن رؤية يراها صائبة، حتى إنَّ حملاته الصحافيَّة جميعها لم يكن الغرض منها دعائياً أو نفعياً، بقدر ما كانت بهدف الدفاع عن المصلحة العامة؛ المصرية والعربية على حدٍّ سواء.
ولد الشاعر فاروق جويدة بقرية (أفلاطون)، بمركز (قلين)، محافظة (كفر الشيخ) في العاشر من شهر فبراير عام (1945م). تخرج في كلية الآداب، قسم الصحافة بجامعة القاهرة عام (1968م). عمل مُحرِّراً بالقسم الاقتصادي بجريدة «الأهرام» في نفس عام تخرجه، ومنذ عام (2002م) أصبح شاعرنا رئيساً للقسم الثقافي بجريدة «الأهرام».
قدَّم للمكتبة العربيَّة أكثر من (32) كتاباً خلال رحلته الإبداعيَّة في الشعر، والمسرح، والقضايا السياسيَّة والثقافيَّة، وأدب الرحلات، فمن بين دواوينه الشعريَّة نذكر: «أوراق من حديقة أكتوبر» (1974م)، «حبيبتي لا ترحلي» (1975م)، «في عينيكِ عنواني» (1979م)، «شيء سيبقى بيننا» (1983م)، «لن أبيع العُمْر» (1989م)، «زمان القهر علَّمني» (1990م)، «كانت لنا أوطان» (1991م)، أمَّا أهم مسرحياته الشعريَّة فنذكر منها: «الوزير العاشق» (1981م)، «الخديوي» (1994م)، وفي أدب الرحلات أصدر كتاباً بعنوان: «بلاد السحر والخيال» (1981م)، وقد فاز شاعرنا بجائزة الدولة التقديريَّة في الآداب من المجلس الأعلى للثقافة، عام (2001م).
وكان لمجلة «الشارقة الثقافيَّة» هذا الحوار الشيق مع الشاعر فاروق جويدة:
¯ متى؟ وكيف تولَّد إحساس فاروق جويدة بعشق الشعر؟
- لا شك أنَّ ميلاد الشاعر فيه جزء قدري، وفيه جزء موهبة، وفيه أيضاً جزء دراسة، الجزء القدري أنَّ هناك إنساناً ما خُلق لكي يكون شاعراً، وهذه مسألة يُحدِّدها الله سبحانه وتعالى. الجانب الثاني هو أنَّ الموهبة مثل أي شيء، من الممكن جداً أن تظهر في مناخ وتموت، أنا أؤمن بأنَّ المواهب مثل الأشجار تماماً، إذا وفرنا لها الرعاية الكافية والمناخ المناسب، فمن الممكن أن تكبر وتعطي الثمار. بعد ذلك تأتي الدراسة، فأنا مؤمن جدّاً بالدراسة في الفنِّ، لأنَّ الاطلاع والسفر والمشاهدة وتنمية الإحساس والذوق، هذه كُلَّها تحتاج إلى تنميةٍ حقيقيةٍ.
نشأتُ في بيئةٍ ثقافيَّةٍ، والدي كان من علماء الأزهر، وكان يهوى الثقافة، وكان رجل دين متفتحاً، كنا نتكلم في كُلّ شيء، وأذكر مرَّة أنني كنت أقرأ، وعمري عشر سنوات، (ألف ليلة وليلة)، وكنت أذهب إليه لأسأله فيما استغلق عليَّ فهمه، وكان يجيبني بصدر رحب.. لقد كانت في بيتنا مكتبة ضخمة تحوي أمهات الكتب من تراثنا العربي والإسلامي.
لا ننسى دور الطبيعة في تكوين المبدع، فالطبيعة أوَّل مُعلِّم في الفنِّ، ليس هناك لوحة أجمل من التي رسمها الله سبحانه وتعالى، ليس هناك موسيقا أجمل من موسيقا الكون، ليس هناك فنّ تشكيلي أجمل من السَّماء والغروب وأسراب الطيور القادمة والذاهبة، كُلّ هذا عندما يترسب في أعماق طفل صغير يبقى هو الزاد الذي يُشكِّله، بعد ذلك تأتي الرؤية الجماليَّة والقدرة على التذوق والإحساس بالأشياء والعلاقات بين الأشياء نفسها، لأنَّ الكون علاقات، والفنّ أيضاً علاقات، وإذا كانت القصيدة علاقة بين كلمة وكلمة تنتج المعنى، ثُمَّ تقوم بتوصيله للنَّاس في إطارٍ من المشاعر والأحاسيس فالكون كذلك.
إضافة إلى ذلك لم يكن لديَّ إخوة صبيان، أنا مكثت لعُمْر خمسة عشر عاماً ابناً وحيداً على مجموعةٍ من الإناث، وقد يكون هذا أعطاني نوعاً من الوحدة، كانت القرية صغيرة جدّاً، والأولاد أبناء الفلاحين كانوا يقومون بزراعة الأرض مع أهليهم، وأنا الوحيد الذي يمكنه أن يجلس في البيت ليقرأ، لأنَّ والدي كان يقوم بتأجير الأرض للآخرين، فهذا أعطاني فرصة لأن أجلس مع نفسي كثيراً، أتأمَّل الكون من حولي ثُمَّ ينعكس هذا بداخلي، ومازالت هذه الخاصية من إحدى سماتي، فأنا أستطيع أن أجلس في مكاني في البيت عشر ساعات لا أتحدث مع أحد إلَّا كتبي وأوراقي، دائماً أقول: الإنسان لا بدّ أن يعتاد الوحدة حتى لا ينسى حقيقته الأولى التي وُلد بها ولا بدّ أن يرحل معها.
¯ يطلق عليك بعض النقاد بأنَّك شاعر الحُبّ، وهذا بالطبع ما ألمسه أنا شخصيّاً في العديد من قصائدك الشعريَّة، ما تعليقكم؟
- الحُبُّ قضية عندي ولكنَّه ليس كُلّ القضايا، فقضية الحُرِّيَّة أيضاً قضية مهمة في شعري، قضية العدالة، فأنا مؤمن بالعدالة الاجتماعيَّة ومؤمن بطبقية الفكر، وغير مؤمن بالطبقية الاجتماعيَّة، ولا بالطبقية الاقتصاديَّة، لذلك أنا أحترم إنساناً فقيراً لأنَّه مثقف، ولأنَّ عقله مستنير، ولا أحترم على الإطلاق صاحب ملايين جاهلاً، هذا هو الفرق بينهما. دعني أقل لك إنَّ الحضارة صنعتها الصفوة، ولم يصنعها القطيع، فأنا بقدر ما أؤمن بالعدالة الاجتماعيَّة، بقدر ما أؤمن بطبقية أصحاب الفكر، وأنَّه لا بدّ أن يكون لهم تميُّز خاص ومكانة خاصَّة في المجتمع، لذلك لا تستطيع أن تقول إن قضية الحُبّ هي القضية الأساس عندي.

¯ مآسٍ عديدة وأحزان جمة تنطوي عليها العديد من قصائدك، فهل معنى ذلك أنَّ الشاعر فاروق جويدة لا ينظر إلى الحياة إلَّا بنظرةٍ حزينةٍ؟
- الحزن شعور من أنبل المشاعر من حيث القيمة، والحزن كما أعتقد يرتبط بدرجة شفافية الإنسان، ثُمَّ إنَّ تجربة جيلي تجربة حزينة، وأتصَّور أيضاً أنَّ تجربة الإنسان في الحياة عموماً تجربة حزينة، إذا كنت لا تعرف نقطة البداية ولا نقطة النهاية، وما بينهما من فراغ!! يستطيع الإنسان أن يزيف وجه السَّعادة، ولكنَّه لا يستطيع أبداً أن يزيف لحظات الحُزن!
أحياناً أتساءل: لماذا نُفكر دائماً في نهايات الأشياء برغم أنَّنا نعيش بداياتها!؟ هل لأنَّنا شعوب تعشق أحزانها؟ أم لأنَّنا من كثرة ما اعتدنا أصبحنا نخاف على كُلِّ شيء، ومن أي شيء! حتى أوقات سعادتنا نخشى عليها من النهاية. ولكن الشاعر سيبقى دوماً يُبشر بالأحلام، لأنَّنا إذا افتقدنا القدرة على الحلم فسوف نفقد قدرتنا على الصمود، ومهما توارى الحلم في عينيَّ وأرَّقني الأجل, مازلت ألمح في رماد العُمْر شيئاً من أمل.
¯ ما رأي الشاعر فاروق جويدة في ما يطرح على الساحة الأدبيَّة من نصوص شعرية غارقة في الغموض والرمزيَّة المكثفة، على أساس أنَّ هذا من متطلبات التجديد أو التجريب الذي تنادي به الحداثة في الشعر؟
- أنا أكتب شعري من خلال هضمي للفنِّ، ليس هدفي أن أهتم بـ(التقاليع)، لأني أنا شاعر أُحبّ التراث العربي والإسلامي الذي أنتمي إليه، إذاً أنا حلقة من حلقات هذا التراث، لا يستطيع أي إنسان أن يضرب بثلاثة آلاف سنة من الشعر عرض الحائط، أنت ترى الجمهور بدأ ينصرف عن الشعر والسبب في ذلك محاولات التجريب التي لا تمتلك مواهب حقيقية، هؤلاء الأدعياء أساؤوا للشعر وكانوا سبباً في ابتعاد النَّاس عن قراءة أشعارهم، أنا مع التجريب ولكن بشرط أن يستند إلى وعي وفهم، أنا ضد التجريب الأعمى، في اعتقادي أنَّ بعض الشعراء الذين يكتبون شعراً غامضاً لا يفهمون ما يكتبونه !! أصارحك إذا قلت لك أنا شخصيّاً أحتاج إلى (مذكرات تفسيرية) لفهم تلك الأشعار. عمليات التجريب لم تهتم مطلقاً بمشكلات النَّاس ومعاناتهم، فكان هدفها هو الاهتمام بالشكل على حساب الجوهر، لا سيما عندما بدأ المُتلقي يستنفد عُمْره أمام وسائل التواصل الاجتماعي، فأصبح من الصَّعب أن يقرأ الشعر، للأسف. المسؤولية كما أتصوَّر تقع بالدرجة الأوَّلى على الشعراء الذين تخلوا عن الجمهور تحت دعاوى التجريب والحداثة..