الكتابة السردية الحديثة، كطيف قادم من أعماق النفس الباحثة عن الأمل، في أتون الألم، ليمدنا بخلايا جينية؛ لمواكبة التجديد والتحولات الرقمية الآنية، وكفنٍّ مغاير فرض نفسه إبداعياً على الساحة بشكل لافت. وحديثاً تأمل العالم مشدوهاً تجربة (هان كانغ)، صاحبة (نوبل)، لتفرد نصوصها الشعرية والروائية كحالة تجريبية ملهمة، وتجلى ذلك في روايتها (النباتية) التي حققت تلكم المعادلة. وسلك هذا التيار الحداثوي كثيرون.
وقد سجلت الأديبة (هديل غانم)، حضورها الأسلوبي برواية (باندورا متعة الهروب)، لتضع بصمتها في هذا المضمار التجددي، ومهدت لهذا النسق بتوطئة روايتها قائلة: (خارج حدود الغرفة الضيقة والمظلمة، تدور أحداث هذه الرواية، إنها حكاية عشق للحياة، غير تقليدية.. بطلتها امرأة من هذا الزمن، تجسد تخاريف المجتمعات وإرهاصات العصر.. سافرت بحقيبتها المهترئة، وحطت في مدن غير تقليدية، حملت همومها ومخاوفها في صندوقها الأسود الصغير، وأغلقت عليه بالمفتاح، ومن ثم عثرت على شيفرة الولوج إلى تلك العوالم الساحرة).

نحن أمام تجربة ثرية تجوب بنا أفق النفس؛ للتواصل مع ذات باحثة عن موئل الحرية، مثقلة بإرهاصات القادم، وأخيلة لنظائر تترى، تتبدى كطيوف تتماهى في مرآتها راصدة تحولات (رمادية) سادت الواقع الآني.. وتبحر متنقلة بين عوالم شتى، من خلال مشاهد أسقطتها على بطلة روايتها (ليلى)، وبرغم هذه التنقلات بين الواقع والمتخيل، فإن المتلقي لا يشعر بوحشة هذا التطواف الأثيري، وانزياح الترحال لفضاءات لغوية، متحدة شعورياً، ومتباينة ظاهرياً.
كما تتراءى مقاربة ضمنية، بين رائعة علاء الأسواني (عمارة يعقوبيان) و(باندورا) هديل غانم، من حيث دقة الوصف (الزمكاني) لتفاصيل منطقة (وسط البلد)، موطن (ليلى) بطلة الرواية، بعمارة (داود عدس). لكنها تخالف الأسواني، لخلوها من أية إسقاطات سياسية جلية، كونها تركز عبر الإبحار (الإثني) على مسارات ومصائر النفس البشرية، مسلطة الضوء على الأحلام والتحولات التي رافقت (ليلى) منذ اللحظة الأولى، وحتى النهاية. فالجامع بين العملين؛ حرفية التوصيف للزمان والمكان، وتفاصيل الحياة في (وسط القاهرة)، كون المكان عند (الساردة) يمثل حجر الزاوية في تحريك الأحداث، وبناء الشخصيات، وتكوين الفكرة بحد ذاتها، فالارتباط بالأمكنة يمثلل حبلاً سريّاً ممتداً ما بين هديل غانم، وبين متعة هروبها لصندوق (باندورا).

وتتقاطع الرواية مع الفيلم الأمريكي (أفاتار) وهو خيال علمي ملحمي، أعده وأخرجه جيمس كاميرون، على مدار سنوات، حتى رأى النور في العام (2009م) ومازال يتربع على قمة الأعلى إيرادات في تاريخ السينما، وقد نعته النقاد بـ(إبداع القرن)، حيث أرسل البطل لكوكب (باندورا) كأول بشري يعيش في الفضاء، ولكن بصورة (أفاتار) ليلتقي بشعب (نافيي) المسالم، وتدور حروب طاحنة بين البشرين والفضائيين، وعند عودته قال جملته الشهيرة (هل االنافييب هم العالم الحقيقي وحياة البشر هي الحلم)، وفي النهاية عند عودة البطل نقل وعيه طواعية لـ(أفاتار) الخاص به للأبد. خلاف (غانم) في روايتها (باندورا) حيث حطمت البطلة الأفاتار الخاص بها (ليلى)، ورفضت أن يسيطر عليها هذا العالم الافتراضي، وفضلت أن تعود لتكمل دورها في الحياة.
أما بطلة الرواية (ليلى)؛ فهي وحيدة أبويها المتوفيين، تعمل مبرمجة ومصممة ألعاب فيديو، ومتميزة في عملها، بالقدر الذي سيؤثر في جل حياتها لاحقاً. وصديقتها (مريم)، وأخوها (عمر)، وجارها (مجدي)، والذي تخاله زوج المستقبل، إلا أنه ومريم تخليا عنها بزواجهما، وسافرا إلى دبي. وهنا تبدأ ملحمة (متعة الهروب) وكما يقول (جيرمي أيرونز): لنا جميعاً آلات سفر عبر الزمن، منها ما يعيدنا إلى الوراء، وتلك اسمها الذاكرة، ومنها ما يدفعنا إلى الأمام، وتلك نسميها الأحلام. وتبحر (ليلى) لفضاء موازنٍ، حاملة نسختها (ليلى الأفاتار)، كأجمل امرأة، ومصطحبة أصدقاءها (كارمن) و(إسلام)، و(أدهم) الصديق السحري (المثالي)، الذي سألها مرة: هل كان حلمك أن تعملي في البرمجة؟ أجابته ليلى: (لا.. عندما كنت صغيرة كنت أحب القراءة كوالدي، عشقت الروايات والقصص، وكنت أحلم بأن أصبح روائية شهيرة عندما أكبر، ولكن والدتي أقنعتني بأن أمتهن عملاً يحقق لي دخلاً مادياً، يساعدني على حياة كريمة، لذلك تخليت عن حلمي!).
وتوثق (غانم) في روايتها لتفاصيل زمكانية، لبطلة ملحمتها (باندورا)، (ليلى) التي تنتمي لجيل السبعينيات، الشاهد على أغلب التحولات الراهنة، والانخراط جبراً أو طوعاً مع تداعيات العصر الرقمي، محافظاً على جماليات الزمن الكلاسيكي، بحكم ثقافة استقى معظمها من عمالقة الأدب والفن؛ لقرب عهده بهم. فنلاحظ تأثر البطلة بسلسلة روايات (عبير) الحالمة، وهي قصص مترجمة لكتاب عالميين، مثل: فيوليت وينسبير، وآن هامبسون، وجانيت ديلي، ومارجري هيلتون.. وغيرهم.

ولكي نهتدي لإشارات ومفاتح (باندورا)، علينا أن نستجلي مرامي ثلاث روايات شكلت مصائر (ليلى)، فمنذ صغرها غرمت برائعة ماركيز (الحب في زمن الكوليرا)، حيث الواقعية السحرية في أبهى صورها، ما يوضح سرّ ميلها إلى الهروب الدائم إلى عالم الأحلام السحري، والحنين إلى الأزمنة الماضية، والأمكنة التي تذكرها بأجمل فترات حياتها. والرواية الثانية (عصفور من الشرق) لتوفيق الحكيم، عندما جلبتها من على (سور الأزبكية) هدية لـ(عمر)، وقد كانت نقطة تحول أخرى. ولكن رواية (الآخر) لدوستويفسكي كانت القاصمة، حيث أدركت بعد الرجوع إليها ونفض التراب عنها، حقيقة ما ضحت به والدتها؛ من أجل ألا تهتز صورة (الأب) المثالية أمامها، لكنها صدمت عندما فتحت صندوق أمها، وقرأت ما خبأته عنها طوال حياتها.

إن تعدد الأصوات السردية بالرواية، يشي بما تعانيه (الكاتبة) من جراء تنقلها بين عالم واقعي وآخر افتراضي، صنعته (ليلى) بعد إصابتها باكتئاب حاد باعترافها لطبيبها المعالج: أقول لنفسي، ربما حياتي هي مجرد حلم.. وأحلامي هي الحقيقة. قبل أن تدهشنا (غانم) بأن الواقع كان (الكابوس) الذي يتكرر معها، لأنه يبعدها عن عالمها (الافتراضي). فحياتها مجرد حلم.. استفاقت منه على الحقيقة البائسة، بأنها لم تغادر بيتها منذ ثلاث سنوات. وتؤكد ذلك (غانم) عبر (عتبات نصوص) زينت فصول روايتها الستة، لمختارات اقتباسية لأدباء ومفكرين، وأحياناً لها كقولها: في عالم الأحلام يمكننا الهروب من الواقع، ولكن كيف نهرب من الأحلام نفسها، إذا فقدنا القدرة على الاستيقاظ!
كما أن (توالد) الشخصيات بعوالم (ليلى)، يجعلنا نسلم بأن النفس لا تألف إلا من يشبهها، فكلهم وبرغم اختلافهم الأسلوبي، لم يكونوا سوى (ليلى)، أو كما أرادتهم هي أن يكونوا. كما ترصد في روايتها عدة ظواهر نفسية، مثل (الديجافو)، وهي ظاهرة نفسية، تكثر بين من يعانون (القلق النفسي)، من خلال معايشة (ليلى) لمواقف في حياتها، فتشعر بأنها مرت بها من قبل، ولكن أين ومتى.. لا تذكر. ولكثرة تنقلها بين عوالم موازية، تفقد بوصلتها، فتستمرئ قسراً صندوقها الافتراضي، قبيل تحطيمه عائدة إلى غرفتها المظلمة، وفي النهاية تقرّ (غانم) بأن (ليلى) هي صانعة الرواية، وصاحبة (متعة الهروب)، وأن (أفاتار) كان أجمل منها، وبأن واقع حياتها (كابوس) إذا ما قورن بالحياة (المثالية) للنسخة (ليلى)، في تلكم الملهاة الأبديّة (باندورا).
وهديل نواف غانم، كاتبة وصحافية سورية، من مواليد القاهرة، درست بجامعة دمشق، كلية الإعلام تخصص صحافة، وعملت مراسلة لصحف إماراتية، وكتبت بعدة صحف ومجلات عربية، وصدر لها: (ثقافة القتل) عن أشهر الاغتيالات السياسية في العالم، وهوليوود صناعة الأثر، ورواية باندورا (متعة الهروب) عن دار شهرزاد، جاءت في (260) صفحة من القطع المتوسط.

الأسطورة الإغريقية (باندورا)، أو صندوق الشر، تحكي عن أميرة منحت صندوقاً يوم زفافها، وكان شرط (زيوس) ألا تفتحه مطلقاً، ولكن روح الفضول دفعتها للمغامرة، فتحررت منه أمراض النفس البشرية لتغزو العالم، ولم يتبقَ سوى (الأمل) رمزاً لمعنى الحياة، فسارعت بغلقه، ولكن بعد فوات الأوان. أسقطت (غانم) الأسطورة بروايتها (مرة) على نسخة (ليلى) فائقة الجمال في صندوقها الافتراضي، فيا تُرى هل تتحول إلى (أفاتارات) تحركها قوى خفية، تسليماً بنظرية (مؤامرة الزواحف والرماديين)، ومرة أخرى على صندوق والدتها حين فتحته، وتصدم بحقيقة أبيها، (خبيئة أمها)؛ لتظل صورته بعيون (ليلى) رمزاً لمعنى الأبوة.