نافذة الثقافة العربية

تجليات الزمكان في صندوق «باندورا»

هديل غانم.. ترصد معطيات العصر في رواية «متعة الهروب»

الكاتب : عبدالعليم حريص

المزيد من المواضيع للكاتب
العدد. 100 Feb, 01 2025
الكتابة‭ ‬السردية‭ ‬الحديثة،‭ ‬كطيف‭ ‬قادم‭ ‬من‭ ‬أعماق‭ ‬النفس‭ ‬الباحثة‭ ‬عن‭ ‬الأمل،‭ ‬في‭ ‬أتون‭ ‬الألم،‭ ‬ليمدنا‭ ‬بخلايا‭ ‬جينية؛‭ ‬لمواكبة‭ ‬التجديد‭ ‬والتحولات‭ ‬الرقمية‭ ‬الآنية،‭ ‬وكفنٍّ‭ ‬مغاير‭ ‬فرض‭ ‬نفسه‭ ‬إبداعياً‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬بشكل‭ ‬لافت‭. ‬وحديثاً‭ ‬تأمل‭ ‬العالم‭ ‬مشدوهاً‭ ‬تجربة‭ (‬هان‭ ‬كانغ‭)‬،‭ ‬صاحبة‭ (‬نوبل‭)‬،‭ ‬لتفرد‭ ‬نصوصها‭ ‬الشعرية‭ ‬والروائية‭ ‬كحالة‭ ‬تجريبية‭ ‬ملهمة،‭ ‬وتجلى‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬روايتها‭ (‬النباتية‭) ‬التي‭ ‬حققت‭ ‬تلكم‭ ‬المعادلة‭. ‬وسلك‭ ‬هذا‭ ‬التيار‭ ‬الحداثوي‭ ‬كثيرون‭.‬​

 

وقد‭ ‬سجلت‭ ‬الأديبة‭ (‬هديل‭ ‬غانم‭)‬،‭ ‬حضورها‭ ‬الأسلوبي‭ ‬برواية‭ (‬باندورا‭ ‬متعة‭ ‬الهروب‭)‬،‭ ‬لتضع‭ ‬بصمتها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المضمار‭ ‬التجددي،‭ ‬ومهدت‭ ‬لهذا‭ ‬النسق‭ ‬بتوطئة‭ ‬روايتها‭ ‬قائلة‭: (‬خارج‭ ‬حدود‭ ‬الغرفة‭ ‬الضيقة‭ ‬والمظلمة،‭ ‬تدور‭ ‬أحداث‭ ‬هذه‭ ‬الرواية،‭ ‬إنها‭ ‬حكاية‭ ‬عشق‭ ‬للحياة،‭ ‬غير‭ ‬تقليدية‭.. ‬بطلتها‭ ‬امرأة‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الزمن،‭ ‬تجسد‭ ‬تخاريف‭ ‬المجتمعات‭ ‬وإرهاصات‭ ‬العصر‭.. ‬سافرت‭ ‬بحقيبتها‭ ‬المهترئة،‭ ‬وحطت‭ ‬في‭ ‬مدن‭ ‬غير‭ ‬تقليدية،‭ ‬حملت‭ ‬همومها‭ ‬ومخاوفها‭ ‬في‭ ‬صندوقها‭ ‬الأسود‭ ‬الصغير،‭ ‬وأغلقت‭ ‬عليه‭ ‬بالمفتاح،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬عثرت‭ ‬على‭ ‬شيفرة‭ ‬الولوج‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬العوالم‭ ‬الساحرة‭).‬

نحن‭ ‬أمام‭ ‬تجربة‭ ‬ثرية‭ ‬تجوب‭ ‬بنا‭ ‬أفق‭ ‬النفس؛‭ ‬للتواصل‭ ‬مع‭ ‬ذات‭ ‬باحثة‭ ‬عن‭ ‬موئل‭ ‬الحرية،‭ ‬مثقلة‭ ‬بإرهاصات‭ ‬القادم،‭ ‬وأخيلة‭ ‬لنظائر‭ ‬تترى،‭ ‬تتبدى‭ ‬كطيوف‭ ‬تتماهى‭ ‬في‭ ‬مرآتها‭ ‬راصدة‭ ‬تحولات‭ (‬رمادية‭) ‬سادت‭ ‬الواقع‭ ‬الآني‭.. ‬وتبحر‭ ‬متنقلة‭ ‬بين‭ ‬عوالم‭ ‬شتى،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬مشاهد‭ ‬أسقطتها‭ ‬على‭ ‬بطلة‭ ‬روايتها‭ (‬ليلى‭)‬،‭ ‬وبرغم‭ ‬هذه‭ ‬التنقلات‭ ‬بين‭ ‬الواقع‭ ‬والمتخيل،‭ ‬فإن‭ ‬المتلقي‭ ‬لا‭ ‬يشعر‭ ‬بوحشة‭ ‬هذا‭ ‬التطواف‭ ‬الأثيري،‭ ‬وانزياح‭ ‬الترحال‭ ‬لفضاءات‭ ‬لغوية،‭ ‬متحدة‭ ‬شعورياً،‭ ‬ومتباينة‭ ‬ظاهرياً‭.‬

كما‭ ‬تتراءى‭ ‬مقاربة‭ ‬ضمنية،‭ ‬بين‭ ‬رائعة‭ ‬علاء‭ ‬الأسواني‭ (‬عمارة‭ ‬يعقوبيان‭) ‬و‭(‬باندورا‭) ‬هديل‭ ‬غانم،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬دقة‭ ‬الوصف‭ (‬الزمكاني‭) ‬لتفاصيل‭ ‬منطقة‭ (‬وسط‭ ‬البلد‭)‬،‭ ‬موطن‭ (‬ليلى‭) ‬بطلة‭ ‬الرواية،‭ ‬بعمارة‭ (‬داود‭ ‬عدس‭). ‬لكنها‭ ‬تخالف‭ ‬الأسواني،‭ ‬لخلوها‭ ‬من‭ ‬أية‭ ‬إسقاطات‭ ‬سياسية‭ ‬جلية،‭ ‬كونها‭ ‬تركز‭ ‬عبر‭ ‬الإبحار‭ (‬الإثني‭) ‬على‭ ‬مسارات‭ ‬ومصائر‭ ‬النفس‭ ‬البشرية،‭ ‬مسلطة‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬الأحلام‭ ‬والتحولات‭ ‬التي‭ ‬رافقت‭ (‬ليلى‭) ‬منذ‭ ‬اللحظة‭ ‬الأولى،‭ ‬وحتى‭ ‬النهاية‭. ‬فالجامع‭ ‬بين‭ ‬العملين؛‭ ‬حرفية‭ ‬التوصيف‭ ‬للزمان‭ ‬والمكان،‭ ‬وتفاصيل‭ ‬الحياة‭ ‬في‭ (‬وسط‭ ‬القاهرة‭)‬،‭ ‬كون‭ ‬المكان‭ ‬عند‭ (‬الساردة‭) ‬يمثل‭ ‬حجر‭ ‬الزاوية‭ ‬في‭ ‬تحريك‭ ‬الأحداث،‭ ‬وبناء‭ ‬الشخصيات،‭ ‬وتكوين‭ ‬الفكرة‭ ‬بحد‭ ‬ذاتها،‭ ‬فالارتباط‭ ‬بالأمكنة‭ ‬يمثلل‭ ‬حبلاً‭ ‬سريّاً‭ ‬ممتداً‭ ‬ما‭ ‬بين‭ ‬هديل‭ ‬غانم،‭ ‬وبين‭ ‬متعة‭ ‬هروبها‭ ‬لصندوق‭ (‬باندورا‭).‬

وتتقاطع‭ ‬الرواية‭ ‬مع‭ ‬الفيلم‭ ‬الأمريكي‭ (‬أفاتار‭) ‬وهو‭ ‬خيال‭ ‬علمي‭ ‬ملحمي،‭ ‬أعده‭ ‬وأخرجه‭ ‬جيمس‭ ‬كاميرون،‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬سنوات،‭ ‬حتى‭ ‬رأى‭ ‬النور‭ ‬في‭ ‬العام‭ (‬2009م‭) ‬ومازال‭ ‬يتربع‭ ‬على‭ ‬قمة‭ ‬الأعلى‭ ‬إيرادات‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬السينما،‭ ‬وقد‭ ‬نعته‭ ‬النقاد‭ ‬بـ‭(‬إبداع‭ ‬القرن‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬أرسل‭ ‬البطل‭ ‬لكوكب‭ (‬باندورا‭) ‬كأول‭ ‬بشري‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬الفضاء،‭ ‬ولكن‭ ‬بصورة‭ (‬أفاتار‭) ‬ليلتقي‭ ‬بشعب‭ (‬نافيي‭) ‬المسالم،‭ ‬وتدور‭ ‬حروب‭ ‬طاحنة‭ ‬بين‭ ‬البشرين‭ ‬والفضائيين،‭ ‬وعند‭ ‬عودته‭ ‬قال‭ ‬جملته‭ ‬الشهيرة‭ (‬هل‭ ‬االنافييب‭ ‬هم‭ ‬العالم‭ ‬الحقيقي‭ ‬وحياة‭ ‬البشر‭ ‬هي‭ ‬الحلم‭)‬،‭ ‬وفي‭ ‬النهاية‭ ‬عند‭ ‬عودة‭ ‬البطل‭ ‬نقل‭ ‬وعيه‭ ‬طواعية‭ ‬لـ‭(‬أفاتار‭) ‬الخاص‭ ‬به‭ ‬للأبد‭. ‬خلاف‭ (‬غانم‭) ‬في‭ ‬روايتها‭ (‬باندورا‭) ‬حيث‭ ‬حطمت‭ ‬البطلة‭ ‬الأفاتار‭ ‬الخاص‭ ‬بها‭ (‬ليلى‭)‬،‭ ‬ورفضت‭ ‬أن‭ ‬يسيطر‭ ‬عليها‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬الافتراضي،‭ ‬وفضلت‭ ‬أن‭ ‬تعود‭ ‬لتكمل‭ ‬دورها‭ ‬في‭ ‬الحياة‭. ‬

أما‭ ‬بطلة‭ ‬الرواية‭ (‬ليلى‭)‬؛‭ ‬فهي‭ ‬وحيدة‭ ‬أبويها‭ ‬المتوفيين،‭ ‬تعمل‭ ‬مبرمجة‭ ‬ومصممة‭ ‬ألعاب‭ ‬فيديو،‭ ‬ومتميزة‭ ‬في‭ ‬عملها،‭ ‬بالقدر‭ ‬الذي‭ ‬سيؤثر‭ ‬في‭ ‬جل‭ ‬حياتها‭ ‬لاحقاً‭. ‬وصديقتها‭ (‬مريم‭)‬،‭ ‬وأخوها‭ (‬عمر‭)‬،‭ ‬وجارها‭ (‬مجدي‭)‬،‭ ‬والذي‭ ‬تخاله‭ ‬زوج‭ ‬المستقبل،‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬ومريم‭ ‬تخليا‭ ‬عنها‭ ‬بزواجهما،‭ ‬وسافرا‭ ‬إلى‭ ‬دبي‭. ‬وهنا‭ ‬تبدأ‭ ‬ملحمة‭ (‬متعة‭ ‬الهروب‭) ‬وكما‭ ‬يقول‭ (‬جيرمي‭ ‬أيرونز‭): ‬لنا‭ ‬جميعاً‭ ‬آلات‭ ‬سفر‭ ‬عبر‭ ‬الزمن،‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬يعيدنا‭ ‬إلى‭ ‬الوراء،‭ ‬وتلك‭ ‬اسمها‭ ‬الذاكرة،‭ ‬ومنها‭ ‬ما‭ ‬يدفعنا‭ ‬إلى‭ ‬الأمام،‭ ‬وتلك‭ ‬نسميها‭ ‬الأحلام‭. ‬وتبحر‭ (‬ليلى‭) ‬لفضاء‭ ‬موازنٍ،‭ ‬حاملة‭ ‬نسختها‭ (‬ليلى‭ ‬الأفاتار‭)‬،‭ ‬كأجمل‭ ‬امرأة،‭ ‬ومصطحبة‭ ‬أصدقاءها‭ (‬كارمن‭) ‬و‭(‬إسلام‭)‬،‭ ‬و‭(‬أدهم‭) ‬الصديق‭ ‬السحري‭ (‬المثالي‭)‬،‭ ‬الذي‭ ‬سألها‭ ‬مرة‭: ‬هل‭ ‬كان‭ ‬حلمك‭ ‬أن‭ ‬تعملي‭ ‬في‭ ‬البرمجة؟‭ ‬أجابته‭ ‬ليلى‭: (‬لا‭.. ‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬صغيرة‭ ‬كنت‭ ‬أحب‭ ‬القراءة‭ ‬كوالدي،‭ ‬عشقت‭ ‬الروايات‭ ‬والقصص،‭ ‬وكنت‭ ‬أحلم‭ ‬بأن‭ ‬أصبح‭ ‬روائية‭ ‬شهيرة‭ ‬عندما‭ ‬أكبر،‭ ‬ولكن‭ ‬والدتي‭ ‬أقنعتني‭ ‬بأن‭ ‬أمتهن‭ ‬عملاً‭ ‬يحقق‭ ‬لي‭ ‬دخلاً‭ ‬مادياً،‭ ‬يساعدني‭ ‬على‭ ‬حياة‭ ‬كريمة،‭ ‬لذلك‭ ‬تخليت‭ ‬عن‭ ‬حلمي‭!).‬

وتوثق‭ (‬غانم‭) ‬في‭ ‬روايتها‭ ‬لتفاصيل‭ ‬زمكانية،‭ ‬لبطلة‭ ‬ملحمتها‭ (‬باندورا‭)‬،‭ (‬ليلى‭) ‬التي‭ ‬تنتمي‭ ‬لجيل‭ ‬السبعينيات،‭ ‬الشاهد‭ ‬على‭ ‬أغلب‭ ‬التحولات‭ ‬الراهنة،‭ ‬والانخراط‭ ‬جبراً‭ ‬أو‭ ‬طوعاً‭ ‬مع‭ ‬تداعيات‭ ‬العصر‭ ‬الرقمي،‭ ‬محافظاً‭ ‬على‭ ‬جماليات‭ ‬الزمن‭ ‬الكلاسيكي،‭ ‬بحكم‭ ‬ثقافة‭ ‬استقى‭ ‬معظمها‭ ‬من‭ ‬عمالقة‭ ‬الأدب‭ ‬والفن؛‭ ‬لقرب‭ ‬عهده‭ ‬بهم‭. ‬فنلاحظ‭ ‬تأثر‭ ‬البطلة‭ ‬بسلسلة‭ ‬روايات‭ (‬عبير‭) ‬الحالمة،‭ ‬وهي‭ ‬قصص‭ ‬مترجمة‭ ‬لكتاب‭ ‬عالميين،‭ ‬مثل‭: ‬فيوليت‭ ‬وينسبير،‭ ‬وآن‭ ‬هامبسون،‭ ‬وجانيت‭ ‬ديلي،‭ ‬ومارجري‭ ‬هيلتون‭.. ‬وغيرهم‭.‬

ولكي‭ ‬نهتدي‭ ‬لإشارات‭ ‬ومفاتح‭ (‬باندورا‭)‬،‭ ‬علينا‭ ‬أن‭ ‬نستجلي‭ ‬مرامي‭ ‬ثلاث‭ ‬روايات‭ ‬شكلت‭ ‬مصائر‭ (‬ليلى‭)‬،‭ ‬فمنذ‭ ‬صغرها‭ ‬غرمت‭ ‬برائعة‭ ‬ماركيز‭ (‬الحب‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الكوليرا‭)‬،‭ ‬حيث‭ ‬الواقعية‭ ‬السحرية‭ ‬في‭ ‬أبهى‭ ‬صورها،‭ ‬ما‭ ‬يوضح‭ ‬سرّ‭ ‬ميلها‭ ‬إلى‭ ‬الهروب‭ ‬الدائم‭ ‬إلى‭ ‬عالم‭ ‬الأحلام‭ ‬السحري،‭ ‬والحنين‭ ‬إلى‭ ‬الأزمنة‭ ‬الماضية،‭ ‬والأمكنة‭ ‬التي‭ ‬تذكرها‭ ‬بأجمل‭ ‬فترات‭ ‬حياتها‭. ‬والرواية‭ ‬الثانية‭ (‬عصفور‭ ‬من‭ ‬الشرق‭) ‬لتوفيق‭ ‬الحكيم،‭ ‬عندما‭ ‬جلبتها‭ ‬من‭ ‬على‭ (‬سور‭ ‬الأزبكية‭) ‬هدية‭ ‬لـ‭(‬عمر‭)‬،‭ ‬وقد‭ ‬كانت‭ ‬نقطة‭ ‬تحول‭ ‬أخرى‭. ‬ولكن‭ ‬رواية‭ (‬الآخر‭) ‬لدوستويفسكي‭ ‬كانت‭ ‬القاصمة،‭ ‬حيث‭ ‬أدركت‭ ‬بعد‭ ‬الرجوع‭ ‬إليها‭ ‬ونفض‭ ‬التراب‭ ‬عنها،‭ ‬حقيقة‭ ‬ما‭ ‬ضحت‭ ‬به‭ ‬والدتها؛‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ألا‭ ‬تهتز‭ ‬صورة‭ (‬الأب‭) ‬المثالية‭ ‬أمامها،‭ ‬لكنها‭ ‬صدمت‭ ‬عندما‭ ‬فتحت‭ ‬صندوق‭ ‬أمها،‭ ‬وقرأت‭ ‬ما‭ ‬خبأته‭ ‬عنها‭ ‬طوال‭ ‬حياتها‭.‬

إن‭ ‬تعدد‭ ‬الأصوات‭ ‬السردية‭ ‬بالرواية،‭ ‬يشي‭ ‬بما‭ ‬تعانيه‭ (‬الكاتبة‭) ‬من‭ ‬جراء‭ ‬تنقلها‭ ‬بين‭ ‬عالم‭ ‬واقعي‭ ‬وآخر‭ ‬افتراضي،‭ ‬صنعته‭ (‬ليلى‭) ‬بعد‭ ‬إصابتها‭ ‬باكتئاب‭ ‬حاد‭ ‬باعترافها‭ ‬لطبيبها‭ ‬المعالج‭: ‬أقول‭ ‬لنفسي،‭ ‬ربما‭ ‬حياتي‭ ‬هي‭ ‬مجرد‭ ‬حلم‭.. ‬وأحلامي‭ ‬هي‭ ‬الحقيقة‭. ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تدهشنا‭ (‬غانم‭) ‬بأن‭ ‬الواقع‭ ‬كان‭ (‬الكابوس‭) ‬الذي‭ ‬يتكرر‭ ‬معها،‭ ‬لأنه‭ ‬يبعدها‭ ‬عن‭ ‬عالمها‭ (‬الافتراضي‭). ‬فحياتها‭ ‬مجرد‭ ‬حلم‭.. ‬استفاقت‭ ‬منه‭ ‬على‭ ‬الحقيقة‭ ‬البائسة،‭ ‬بأنها‭ ‬لم‭ ‬تغادر‭ ‬بيتها‭ ‬منذ‭ ‬ثلاث‭ ‬سنوات‭. ‬وتؤكد‭ ‬ذلك‭ (‬غانم‭) ‬عبر‭ (‬عتبات‭ ‬نصوص‭) ‬زينت‭ ‬فصول‭ ‬روايتها‭ ‬الستة،‭ ‬لمختارات‭ ‬اقتباسية‭ ‬لأدباء‭ ‬ومفكرين،‭ ‬وأحياناً‭ ‬لها‭ ‬كقولها‭: ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الأحلام‭ ‬يمكننا‭ ‬الهروب‭ ‬من‭ ‬الواقع،‭ ‬ولكن‭ ‬كيف‭ ‬نهرب‭ ‬من‭ ‬الأحلام‭ ‬نفسها،‭ ‬إذا‭ ‬فقدنا‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الاستيقاظ‭!‬

كما‭ ‬أن‭ (‬توالد‭) ‬الشخصيات‭ ‬بعوالم‭ (‬ليلى‭)‬،‭ ‬يجعلنا‭ ‬نسلم‭ ‬بأن‭ ‬النفس‭ ‬لا‭ ‬تألف‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬يشبهها،‭ ‬فكلهم‭ ‬وبرغم‭ ‬اختلافهم‭ ‬الأسلوبي،‭ ‬لم‭ ‬يكونوا‭ ‬سوى‭ (‬ليلى‭)‬،‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬أرادتهم‭ ‬هي‭ ‬أن‭ ‬يكونوا‭. ‬كما‭ ‬ترصد‭ ‬في‭ ‬روايتها‭ ‬عدة‭ ‬ظواهر‭ ‬نفسية،‭ ‬مثل‭ (‬الديجافو‭)‬،‭ ‬وهي‭ ‬ظاهرة‭ ‬نفسية،‭ ‬تكثر‭ ‬بين‭ ‬من‭ ‬يعانون‭ (‬القلق‭ ‬النفسي‭)‬،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬معايشة‭ (‬ليلى‭) ‬لمواقف‭ ‬في‭ ‬حياتها،‭ ‬فتشعر‭ ‬بأنها‭ ‬مرت‭ ‬بها‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬ولكن‭ ‬أين‭ ‬ومتى‭.. ‬لا‭ ‬تذكر‭. ‬ولكثرة‭ ‬تنقلها‭ ‬بين‭ ‬عوالم‭ ‬موازية،‭ ‬تفقد‭ ‬بوصلتها،‭ ‬فتستمرئ‭ ‬قسراً‭ ‬صندوقها‭ ‬الافتراضي،‭ ‬قبيل‭ ‬تحطيمه‭ ‬عائدة‭ ‬إلى‭ ‬غرفتها‭ ‬المظلمة،‭ ‬وفي‭ ‬النهاية‭ ‬تقرّ‭ (‬غانم‭) ‬بأن‭ (‬ليلى‭) ‬هي‭ ‬صانعة‭ ‬الرواية،‭ ‬وصاحبة‭ (‬متعة‭ ‬الهروب‭)‬،‭ ‬وأن‭ (‬أفاتار‭) ‬كان‭ ‬أجمل‭ ‬منها،‭ ‬وبأن‭ ‬واقع‭ ‬حياتها‭ (‬كابوس‭) ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬قورن‭ ‬بالحياة‭ (‬المثالية‭) ‬للنسخة‭ (‬ليلى‭)‬،‭ ‬في‭ ‬تلكم‭ ‬الملهاة‭ ‬الأبديّة‭ (‬باندورا‭).‬

‭ ‬وهديل‭ ‬نواف‭ ‬غانم،‭ ‬كاتبة‭ ‬وصحافية‭ ‬سورية،‭ ‬من‭ ‬مواليد‭ ‬القاهرة،‭ ‬درست‭ ‬بجامعة‭ ‬دمشق،‭ ‬كلية‭ ‬الإعلام‭ ‬تخصص‭ ‬صحافة،‭ ‬وعملت‭ ‬مراسلة‭ ‬لصحف‭ ‬إماراتية،‭ ‬وكتبت‭ ‬بعدة‭ ‬صحف‭ ‬ومجلات‭ ‬عربية،‭ ‬وصدر‭ ‬لها‭: (‬ثقافة‭ ‬القتل‭) ‬عن‭ ‬أشهر‭ ‬الاغتيالات‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬العالم،‭ ‬وهوليوود‭ ‬صناعة‭ ‬الأثر،‭ ‬ورواية‭ ‬باندورا‭ (‬متعة‭ ‬الهروب‭) ‬عن‭ ‬دار‭ ‬شهرزاد،‭ ‬جاءت‭ ‬في‭ (‬260‭) ‬صفحة‭ ‬من‭ ‬القطع‭ ‬المتوسط‭.‬

 

الأسطورة‭ ‬الإغريقية‭ (‬باندورا‭)‬،‭ ‬أو‭ ‬صندوق‭ ‬الشر،‭ ‬تحكي‭ ‬عن‭ ‬أميرة‭ ‬منحت‭ ‬صندوقاً‭ ‬يوم‭ ‬زفافها،‭ ‬وكان‭ ‬شرط‭ (‬زيوس‭) ‬ألا‭ ‬تفتحه‭ ‬مطلقاً،‭ ‬ولكن‭ ‬روح‭ ‬الفضول‭ ‬دفعتها‭ ‬للمغامرة،‭ ‬فتحررت‭ ‬منه‭ ‬أمراض‭ ‬النفس‭ ‬البشرية‭ ‬لتغزو‭ ‬العالم،‭ ‬ولم‭ ‬يتبقَ‭ ‬سوى‭ (‬الأمل‭) ‬رمزاً‭ ‬لمعنى‭ ‬الحياة،‭ ‬فسارعت‭ ‬بغلقه،‭ ‬ولكن‭ ‬بعد‭ ‬فوات‭ ‬الأوان‭. ‬أسقطت‭ (‬غانم‭) ‬الأسطورة‭ ‬بروايتها‭ (‬مرة‭) ‬على‭ ‬نسخة‭ (‬ليلى‭) ‬فائقة‭ ‬الجمال‭ ‬في‭ ‬صندوقها‭ ‬الافتراضي،‭ ‬فيا‭ ‬تُرى‭ ‬هل‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ (‬أفاتارات‭) ‬تحركها‭ ‬قوى‭ ‬خفية،‭ ‬تسليماً‭ ‬بنظرية‭ (‬مؤامرة‭ ‬الزواحف‭ ‬والرماديين‭)‬،‭ ‬ومرة‭ ‬أخرى‭ ‬على‭ ‬صندوق‭ ‬والدتها‭ ‬حين‭ ‬فتحته،‭ ‬وتصدم‭ ‬بحقيقة‭ ‬أبيها،‭ (‬خبيئة‭ ‬أمها‭)‬؛‭ ‬لتظل‭ ‬صورته‭ ‬بعيون‭ (‬ليلى‭) ‬رمزاً‭ ‬لمعنى‭ ‬الأبوة‭.‬