فاز الشاعر والناقد التونسي، الدكتور فتحي النصري بـ(جائزة الشارقة لنقد الشعر العربي) في دورتها الرابعة... عن الجائزة وكيف تقبّل خبر الفوز بها قال (وردت عليّ صبيحة يوم الأربعاء الحادي عشر من ديسمبر مكالمة من الأمانة العامّة لجائزة الشارقة لنقد الشعر، وزُفَّ إليّ الخبر البهيج.
فقد فاز بحثي الموسوم بـ االسيرذاتيّ في القصيدة العربيّة المعاصرة بين الأثر المرجعيّ والخرق الغنائيّب بجائزة الشارقة لنقد الشعر العربي، وازداد ابتهاجي عندما علمت أنّني فزت في المركز الأوّل، غمرني فرح عارم وكل ما قلته في تلك اللحظة لم يكن سوى تعبير عن هذا الفرح ومشاعر الامتنان؛ لأنّ الجهد الذي بذلته في إنجاز البحث المتوّج أتى أكله. وفي اليوم التالي وصلتني على البريد الإلكتروني رسالة تهنئة من إدارة الشؤون الثقافيّة. فزادني ذلك ابتهاجاً واعتزازاً بما أنجزت، وبادرت إلى إرسال نصّ التهنئة إلى أفراد عائلتي ليقاسموني فرحتي واعتزازي. وظللت أنتظر بفارغ الصبر إعلان إدارة الشؤون الثقافيّة في دائرة الثقافة بالشارقة، عن الفائزين حتّى أزفّ الخبر السعيد لكافّة أصدقائي وأهلي).

وعن مدار البحث، أكد الباحث التونسي التعامل بين الشعريّ والسيرذاتيّ في القصيدة، إذ يبنيهما الشاعر على استدعاء شذرات من وقائع حياته الخاصّة. وتعود طرافة الموضوع إلى أنّ بين السيرة الذاتيّة والشعر من التباين في الخصائص، ما يجعل مباشرة السيرذاتيّ في القصيدة العربيّة المعاصرة مدعاة لإثارة عديد القضايا والإشكاليّات. فالسيرة الذاتيّة، مثلما هو معلوم، جنس سرديّ مرجعيّ ذو طبيعة نثريّة تفترض لغة شفّافة تؤمّن التواصل والإفهام، في حين أنّ الشعر نمط مخصوص من استعمال اللغة يحفّز المشابهة الصوتيّة ودلالة الإيحاء ويراهن على الخيال والتخييل. فأنّى له أن يتّسع للسيرذاتيّ؟ وهل بإمكان اللغة الشعريّة الانصياع للشفافيّة المرجعيّة؟ وإذا تمّ لها ذلك ألا يتجرّد الشعر من شعريّته ويغدو مجرّد نظم لوقائع حياة خاصّة؟ أم على الشعر أن يجرّد السيرذاتيّ من خصائصه الأجناسيّة حتّى يخضعه لمقتضيات الشعريّة؟ ثمّ، وقبل كلّ ذلك، هل يتعلّق الأمر بكتابة سيرة ذاتيّة تستوفي شروط هذا الجنس شعراً، أم هو لا يعدو حضور عناصر سيرذاتيّة في القصيدة، فيَحْسُن عندئذٍ الكلام عن سيرذاتيّ؟
إنّ الشاعر المعاصر لا يكتب سيرته شعراً مثلما هو الشأن في النثر، بل يقتصر على استدعاء تجارب مؤثّرة في حياته يخضعها لمقتضيات الشعر، ولذلك بنينا هذا البحث على فرضيّة مفادها أنّ السيرذاتيّ إذ تستدعيه القصيدة يكون فيها عرضة لضروب من التحويل يقتضيها انصهاره في بنيتها. ولا يعود هذا الافتراض إلى الانطباع المتحصّل لدينا ممّا أتيح لنا الاطّلاع عليه من اشعر سيرذاتيّب فحسب، ولكن يعود أيضاً إلى نزوع عامّ في الشعريّة الحديثة، يجعل من القصيدة قوّة نفي تتغذّى من مختلف أنماط الخطاب والبنى الأجناسيّة، وتخْرقها في الآن نفسه.

إذاً المسألة لا تتعلّق بإثبات حضور عناصر سيرذاتيّة في الشعر، ولكن بصيرورة هذه العناصر التي يطرأ عليها من التحويل ما يجعل حضورها أشبه بأثر بعد عين، وهو ما يخلّف الانطباع بأنّ السيرذاتيّ في الشعر ينوس بين الإثبات والنفي، وهذا الوضع يعود إلى حقيقة موضوعيّة تتمثّل ببساطة في التباين الحادّ بين السيرة الذاتيّة والشعر؛ فهي جنس سرديّ مرجعيّ يروي أحداثاً حقيقيّة تتعاقب في الزمن وقد تترابط سببياً، وتفترض لذلك لغة شفّافة تؤمّن الإبلاغ. وتصطدم هذه الخصائص بما يناقضها في الشعر مناقضة تامّة؛ فالسرديّة والخطيّة والإحالة المرجعيّة نقائض لمقوّمات الشعر الأساسيّة: الغنائيّة والدوريّة واللغة الإيحائيّة. فكيف تتّسع القصيدة بعد ذلك للسيرذاتيّ؟
إنّ الإجابة تكمن في تقرير حقيقتين، الأولى أنّ الشعر يتغذّى من مختلف أنماط الخطاب ومختلف الأجناس، والثانية أنّه يتميّز بقدرته على خرق أيّ أُسّ خِطابيّ أو رسم أجناسيّ يدخل في تكوينه، إذ يكون عرضة لأشكال مختلفة من التحويل يقتضيها انصهاره في القصيدة وتكييفه بما يلائم مقتضيات الشعريّة.
وعن رأيه في المشهد النّقدي العربيّ، لفت االنصريب إلى أنه (يعسر الكلام على مشهد نقديّ عربيّ لأنّ وضع النقد قد يختلف من قطر إلى آخر. فتقييم هذا المشهد يتطلّب مباشرته في كلّ قطر على حدة. ولكن بالإمكان إبداء بعض الملاحظات العامّة التي تختصر رأيي في نقد الشعر. وأنبّه أوّلاً إلى أنّ ما يدرج عادة تحت عنوان النقد هو خليط من البحوث الأكاديميّة والكتابات النقديّة بحصر المعنى. وقد يسعى البحث الأكاديمي إلى مباشرة المنجز الشعري بإجراء مقاربة مّا أو يقتصر على أن يباشره من خلال موضوع محدّد أو ظاهرة معيّنة، أمّا النقد فيرمي إلى المقاربة الشاملة التي تحدّد قيمته الفنّيّة.
وقد تكون هذه المقاربة الشاملة أقلّ صرامة من البحث الأكاديمي، ولكنّها ضروريّة ومفيدة لمعرفة قيمة العمل الأدبي. وقد آن الأوان في رأيي لعودة النقد الانطباعي الذي كثيرا ما حطّ الأكاديميّون من قيمته. فليس المشكل في تقديري في أن يقوم النقد على انطباعات الناقد، ولكن الأمر يتوقّف على من تصدر عنه هذه الانطباعات. فانطباعات العارف بالشعر تنطوي غالباً على معرفة وحدوس تقرّب العمل الأدبي من القارئ وتساعده على تذوّقه. وأعتقد أنّ معظم ما كتبه طه حسين، والعقّاد، وإحسان عبّاس، وعزالدين إسماعيل، ومحمّد النويهي، ومحمّد صالح الجابري وغيرهم كثير، نقد انطباعي ولكنّه نقد حصيف لأنّه صادر عن نقّاد عارفين بالشعر. فما نحتاج إليه حقّاً هو طليعة نقديّة تكون وسيطاً بين الشاعر والقارئ وتقرّب الأعمال الشعريّة من المتلقّي؛ طليعة نقديّة قادرة على التقاط الجديد والمختلف والفريد وقادرة على أن تسدّ الفجوة التي تفصل بين الشعر المعاصر ومتلقّيه، وبدون وجود مثل هذه الطليعة النقديّة قد يضيع شعر كثير، وتعبر تجارب مهمّة أمام أعيننا دون أن ننتبه إليها.. هذه الطليعة ضروريّة لوضع الأمور في مواضعها).

وعن أهمّية الجوائز الأدبيّة في خدمة الإبداع قال (لا يمكن للجوائز الأدبيّة إلاّ أنّ تحفّز النقّاد إلى الاشتغال بالمدوّنة الإبداعيّة، وهي بذلك تدعم الممارسة النقديّة وتغني المشهد الثقافيّ، وتتيح الفرصة للنقّاد ليقدّموا أفضل ما لديهم من معرفة علميّة ودراية نقديّة، لتسليط الضوء على المنجز الأدبيّ العربيّ؛ وهو ما يغني المكتبة العربيّة بدراسات جديدة، ويُشعِر الباحث العربيّ بأهمّية ما يقدّم من بحوث يكافأ عليها ماديّاً وأدبياً، وتسهم في إشعاعه ولفت الانتباه إلى أعماله).
وخلص الدكتور النصري في حوارنا معه إلى الإشادة بدور الشارقة في خدمة المشهد الإبداعي، حيث أكد أن حكومة الإمارات تمنح عدداً كبيراً من الجوائز للأفراد والمؤسّسات رعاية للثقافة والفنون، وتثميناً للجهود المبذولة في مختلف المجالات الإبداعيّة والفنيّة، وتقديراً للمواهب وتحفيزاً على المزيد من العطاء. وتندرج الجوائز التي تنظمها دائرة الثقافة في الشارقة في هذا الإطار العام، الذي يراهن على التنمية الثقافيّة وخدمة الثقافة. وهي تقدّم برعاية حضرة صاحب السموّ الشيخ الدكتور
سلطان بن محمّد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة جوائز قيمة، تشمل الثقافة العربيّة والإبداع الشعريّ ونقد الشعر والتأليف المسرحيّ.. ولهذه الجوائز أهداف نبيلة ترمي في نهاية المطاف إلى تكريم المبدعين وخدمة الإنسان.