ينسج الروائي اللبناني جبور الدويهي، رواياته بمهارة المتمكن من أدواته، ليشكل عوالم تلامس الناس وتعبر عنهم في الكثير من الأحداث والتفاصيل. هذا الإبداع الذي ميز تجربة الدويهي، أهله للحصول على العديد من الجوائز، كما ترجمت العديد من رواياته إلى لغات عدة، منها الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية.

والدويهي، الحاصل على دكتوراه في الأدب المقارن من جامعة باريس الثالثة، نذر نفسه للكتابة، فهي طقس يومي لديه، وهي التي تقوده لمساراتها من دون أن يتعمد تحميل رواياته رسائل وقناعات محددة.
عن هذه التجربة الثرية تحدث الدويهي لـ«الشارقة الثقافية» من خلال الحوار الآتي:
¯ من تقاليدك اليومية الجلوس في مقهى في طرابلس أو بيروت للكتابة. لماذا الكتابة بعيداً عن المنزل؟
- اكتسبت باكراً عادة الكتابة في المقاهي، من سنوات الجامعة وتحضير الدروس محاطاً بالأصدقاء وعلى وقع التسجيلات الغنائية، فارتبطت الكتابة ببهجة اللقاء، تتقاطع مع قراءة الصحيفة والإنصات للأخبار وحركة الشارع. هكذا وجدت نفسي خارج البيت عندما كان البيت مكتظاً بالأهل والأشقاء لا أجد لنفسي فيه فسحة كافية، وبقيت أسعى للخارج حتى عندما صار البيت فسيحاً. لا أجد تفسيراً (نفسياً) لهذه الرغبة، لكني ألاحظ في الواقع أني كلما ابتعدت عن البيت، زادت حماستي للكتابة.
¯ هل تلتزم بأوقات محددة للكتابة؟
- لا أكون منتجاً إلاّ بين العاشرة صباحاً والواحدة ظهراً، وأعتقد أنه سلوك محفّز بالرغم من اعتقادٍ ما أن الروتين يؤثر سلباً.. لكنني مقتنع بأن الجلوس للكتابة في وقت محدد ويومي خير سبيل لاستخراج أفضل ما لدينا، وكما يقول أحدهم: عليك الجلوس كل يوم لأن الفكرة قد تحضُر وتجدك غائباً.

¯ لبنان، بعدد من مدنه ومناطقه، حضروا بقوة في رواياتك. فما الذي تسعى لقوله من خلال هذا التكريس لوجودهم الموازي لشخصيات رواياتك؟
- لا أسعى وراء فكرة أو رسالة، بل أتبع هوى كتابتي والصور والسيناريوهات التي تلحّ عليّ، فأجد نفسي كما سائر الروائيين أتنقل بين الأمكنة وتطيب لي الكتابة عن أمكنة أعرفها، أحسّ بها، أُسكن فيها شخصيات حكاياتي، ويكون بين هذه الشخصيات وتلك الأمكنة علاقة حميمة في أغلب الأحيان، وتتعدد إشارات الانتماء للمكان بدءاً باللهجة والمأكل والانتساب للجماعة، وكل ذلك يلوّن الرواية ويمنحها أصالة وانغراساً مقنعاً في الواقع. ولبنان بلد متنوع متعدد الهويات الصغرى والجذور المحلية، واختلاف وضع المرأة فيه وأنماط اللباس وأسماء العلم ودلالاتها، وهو يصلح بتنويعاته أن يغني الأدب الروائي.
¯ قلت ذات يوم إنك (تكتب عمن تعرفهم).. فإلى أي مدى يمكن للكاتب أن يكون صوتاً للآخرين؟
- هذه مسلّمة، حيث إننا نكتب ما نعرفه، ما نشعر به لدى الآخرين من دون أن نستوطنهم، وطالما البشر يتشابهون، فإن الأحوال التي نصفها لا بد وأن تكون محسوسة منا بشكل ما. لكن في الشكل المنجز للرواية بأسمائها وأمكنتها ومجرياتها، أحاول دائماً وضع الشخصيات على المسرح والتكلم بلغتها ومراجعها الثقافية، لها حيواتها الخاصة وأكون أنا قائد أوركسترا يوزع الأدوار والنوتات ولا يظهر. لست من الصنف الذي يقتنص الفرص في الرواية لتمرير أفكاره وأذواقه الخاصة والتبشير بآراء بعينها، فقناعاتي قليلة لكن متعتي في الكتابة كبيرة.

¯ أصدرت في العام (1990) مجموعتك القصصية (الموت بين الأهل نعاس).. لماذا اتجهت من بعدها الى الرواية؟
- كانت هذه القصص القصيرة بمثابة تجربة على الكتابة، تمارين صغيرة، بورتريهات لشخصيات أعرفها أو سمعت عنها، حكايات متكررة شفهياً في محيطي وبين أهلي، وبعد أن لاقت هذه النصوص بعض الاستحسان عند الزملاء والأصدقاء، ضربني الحماس فاتجهت الى القياس الأكبر. القصص القصيرة ملذات صغيرة وعابرة للكاتب والقارئ، لا يمضي عليك وقت تتآلف فيه مع الشخصية حتى تضطر الى مغادرتها والدخول في عالم جديد، بينما في الرواية إشباع للخيال ومساكنة تدوم ويبقى وقعها أعمق. هذا ليس انتقاصاً من القصة القصيرة، حيث لكل كاتب حساسية وجمالية يطاردهما.
¯ وصلت روايتاك (مطر حزيران) و(شريد المنازل) إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، ووصلت (حيّ الأميركان) إلى القائمة الطويلة، وحزت جوائز عديدة في الولايات المتحدة وفرنسا ولبنان.. ما الفارق الذي أحدثته تجربتك هذه مع الجوائز؟
- الجوائز الأدبية محاولات لإيجاد سلم تقييمي للأدب الروائي، وهي تثير حفيظة الأكثرية، إذ لا مكان للعدد الأكبر هنا، وترضي غرور القلّة الممنوحة، وهذا دأب جميع المباريات في جميع أبواب النشاط، لكن حيث يكون التصنيف في الرياضة مثلاً صارماً ومعبّراً بدقة كبيرة عن إمكانات المتبارين، فإن ترتيب الأعمال الأدبية وفق أهميتها ليس بالأمر السهل وتخضع لجدل لا ينتهي. ويكتشف المتابع لهذه الجوائز، وهذا ليس دأب الجوائز العربية وحدها، أنها إذا اهتدت لتتويج أعمال عميقة ذات أسلوب فإنها في المقابل تهمل الكثير من الكتب المهمة، والتي سيصار إلى تأكد حضورها خارج الجوائز وتصنيفاتها.
¯ أشرفت على عدد من ورش الكتابة من تنظيم جائزة (البوكر) وبمبادرة من الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق).. فكيف تقيّم تجربتك هذه؟
- الشائع في هذا المجال، أن لا أحد ينجح بتعليم أحد فن الكتابة وتحدياتها، وهذا كان أمراً مفهوماً بالنسبة إلي. لذا كان دائماً اختيار المرشحين للورشة يأخذ في الاعتبار استعدادهم وبداياتٍ كتابيةً واعدة لهم. فكانت لقاءات الورشة بمثابة عصف فكري وأسلوبي حول نصوص المشاركين، يساهم في مناقشتها مدير الورشة والأعضاء المشاركون، فيخضع الكاتب لامتحان قاسٍ، يتذكره كل من مر به، إذ يحفّزه لإبراز أفضل ما لديه من إمكانيات كتابية ومعنوية. ولا أنكر إطلاقاً أني استفدت كثيراً من محاورة أصحاب مشاريع الكتابة، كما سعيت إلى أن أقود كلاً منهم حيث يأخذه أسلوبه وأطباعه، من دون فرض أي توجه، سواء أكان في اختيار الموضوع أو معالجته، بل المهم تعميق خيارات الكاتب وتأكيدها لتعبّر عما يدور في نفسه.

¯ تدرّس الفرنسية في الجامعة اللبنانية، إلى أي مدى منحتك الفرنسية مخزوناً معرفياً، مع العلم أنك فضلت ألا تكون لغتك الإبداعية؟ وما هو جديدك؟
- لا جدال بأن تعلّم لغة ما والتعرف إلى آدابها يفتح باباً، ويسمح بالاستفادة من (عبقرية) هذه اللغة وقراءتها للعالم، وهذا ما حدث معي في اللغة الفرنسية، حيث وصلت إلى تدريسها والكتابة فيها بالمجال الأكاديمي، وفي محاولات النقد الأدبي ومراجعات الكتب، التي أقوم بها منذ سنوات طويلة شهرياً في مطبوعات فرنسية تصدر في بيروت. أما عند اختيار لغة الرواية، فلم يكن هناك من تردد بالنسبة إلي، إذ كان عليّ بالطبع اعتماد لغة الشخصيات التي اخترت تقديمها للقارئ بلغتي (الأم). أما جديدي؛ فأنا بصدد الانتهاء من رواية بعنوان (ملك الهند)، وهي محاولة للعبث مع الحبكة البوليسية، ومحاولة جديدة أيضاً لي في عالم الرواية.