كان جزءاً من ذاكرة الثقافة العربية في الشارقة، ولا ندري كيف استدرجته السياسة والإعلام إلى ساحتيهما المثيرتين والفاعلتين.
لقد كان محمود الورواري مع عصبة من المبدعين المواطنين والعرب، يطمحون في بعث مشروع ينطلق من قلعة اسمها (النادي الثقافي العربي) ذاك الصرح المهموم دائماً بقضايا جاليات الأمة قاطبة، وعندما احتضنته فضائية الشارقة ليمارس فيها عملاً اقتضى منه مزيداً من الجهد والفكر.

قلنا له: (إنه العقد الثقافي المناسب)، وبالفعل فقد اكتشفنا فيه الرجل المحاور المتمكن، والإعلامي المنطلق، ولم يكن ذلك غريباً، فهو القادم من عمق المؤسسات الثقافية والإعلامية، الضاربة في حرفية وأصالة المهنتين، صوت العرب، الأهرام، الأنباء الكويتية، الاتحاد الإماراتية.. وغيرها.
كتب محمود الورواري الرواية والقصة، وأبدع في المسرح، وله في أدب الأطفال الكثير، ولا ننسى إسهاماته الساخنة وما كانت تفيض به في أمسيات الإبداع المختلفة..
فهل هروب الرجل إلى ساحةٍ أكثر سخونة، كالساحة الإعلامية الدولية بكل إرهاصاتها، قد أشبع غريزة ما في نفسه وأطفأ بداخلها قلقاً كان دفيناً ولم نكن نعلم؟ وهل كان فعلاً من أسباب ذلك الانتقال حالة الإحباط الكبيرة التي أصابتنا، وبالأخص العدد الكبير من مثقفيها الناشطين والغيورين فغيروا الاتجاه؟
وماذا بإمكان الأديب (الإعلامي) أن يقدم في اللحظات التي تضاءلت وخجلت فيها الكلمات نفسها؟ هكذا تساءل محمود الورواري إذا لم يكن هناك تماس حقيقي مع الحدث.
ثم ماذا أتاحت تلك القنوات الفضائية للرجل، تلك النوافذ التي كان لوطنه العربي منها شكل آخر، وقد قارن الرجل يومها بين نقاط مهمة وهو يقرر ذلك التحول: المكان ونوعية العمل وظروفه ومناخاته وفي وجدانه قناة الشارقة، التي أتاحت له طَرق جميع أنواع البرامج الثقافية بأنواعها الفكرية والأدبية والفنية؛ من الحوارية إلى الندوات وغيرها.. ونحن نتذكر جيداً برنامج (روائيون) الذي دُرّست بعض فقراته في إحدى الجامعات الأمريكية، وكذلك برنامج (وقفة) الذي استضاف فيه نخبة كبيرة من قامات ومبدعي الوطن العربي، أمثال جورج طرابيشي، وعبدالقادر القط، ومحمود أمين العالم، وسلام المسدي وغيرهم..
ونذكر كذلك البرنامج الذي حاور فيه مفكري الغرب تحديداً وقتها، وهذا البرنامج قام على معادلة أنه كان يطالب، بعد أحداث سبتمبر الشهيرة، بأن يفسح الغرب أبواب إعلامه أكثر لنا، على أمل أن نفسح بدورنا ما نملك من إعلام لذواتنا وللآخر بطبيعة الحال، فهذه البرامج جميعها جعلت من الرجل ذات يوم، يجيب عن سؤال تحوله: لا يمكن أن أقدم أكثر مما قدمت من الرَّوي، ولا يوجد برنامج ولا كلمة في المجالين الثقافي والفكري تستطيع أن تختزل أو تعبر عما حدث.. أو كما تريدون، فالعمل الإخباري قد وضعني في قلب الأحداث، سواء بنقلي المباشر أو بتقديم الأخبار أو تقديم شتى البرامج..
وراحت فعلاً برامج الرجل الإعلامية والناجحة تتعدد ليقدم من خلالها يوميات الرصد والتماس، وأحياناً التعبير والبكاء بصوتٍ مراتٍ ومن دون صوت في الكثير من المرات، لأن إعلام الآخر وانحرافاته كانا يظهران الأشياء على غير حقيقتها، فكان واجب تصحيح ذلك المغلوط حاضراً قدر الإمكان.
ثم رأينا محمود الورواري، ينغمس كذلك في برامج ترصد الحدث اليومي وتحلله بدقة متناهية، وإلى غير ذلك من الإبداعات الإعلامية، التي كان يجود بها ويعرفها الناس. وكل تلك البرامج لم يكن فيها في البداية مجالٌ لقصيدة أو رواية أو ندوة فكرية أو كتاب أو خلافه، نعم لقد كانت برامج لواقع قاسٍ مرير بخلاف نشاطاته، التي عرفناها في الشارقة من خلال ذلك الانتظام في مواعيد الفعاليات الثقافية الجادة، كالمسرح وغيره من النشاطات الأسبوعية الثابتة..
عُرف محمود الورواري كإعلامي استثنائي ذي نجومية خاصة كانت تحجب ربما في مناسبات عدة على نجومية إبداعية متمكنة في ذاته الشفافة، نظراً لفعل التلفزيون وسحره المباشر في الناس، إلا أن الرجل وبرغم كل المغريات لم يتخل يوماً عن توجهه الإبداعي الإنساني، الذي منه وبه انطلق ذات يوم عندما اكتشف في ذاته الصغيرة تلك الخصلة يوم كتب في مسابقة المدرسة عن الأم المناضلة في موضوع التعبير الإنشائي الذي طرح عليه في الفصل مع زملائه، ونال على إثره التشجيع والتصفيق والاستحسان..
وهكذا كان الإعلامي الأديب أو الأديب الإعلامي، بين الفترة والأخرى، يقدم ما اختزنت تلك النفس، من خلال المعايشة الدائمة لإثارة الإعلام وضجيجه..
عطاءاتٌ إبداعية لا تعبر إلا عن انكسارات الروح، والإنسانية بشكل عام، وبالأخص النفوس المتعبة منها في خضم الحياة وأهوالها في شكل إبداع قصصي، يتقنه الرجل جيداً كما نعرف، وكما كنا نتابعه وينال فيه الجوائز المهمة، أو رواياتٍ لافتة أثبتت حضورها القرائي الكبير بين متابعيه.
فالرجل ومنذ زمنٍ، اتبع مدرسة خاصة به، فمنذ البداية يحول فيها الحكايات العادية إلى قصص غير عادية (فما بالك بتلك المثيرة) في إطار العبر وإعادة تدوير الحياة، فالرواية مثلاً بالنسبة إليه تظل تتخطى الكثير مما هو دارج، وتذهب بعيداً في تسجيل المسارات الإنسانية، التي قليلاً ما ينتبه إليها الآخرون، فهو عندما يحدثك في روايته (السقوط) مثلاً، فهو يحدثك عن انكسارات النفس بشكل عام أكثر من انكسار فرد بذاته، أو روايته (مدد) التي مثلت بدورها حالة شبيهة بأوضاع الناس، بعدما وصفت ما سمي بالربيع العربي، وهي رواية فلسفية بليغة وعميقة، رصدت الكثير من المناطق الرمادية في الذات، وخاصة في المجتمع الذي يسكن فيه الناس تلك المقابر، فهم يعيشون مع الأموات من جهة، وهم كذلك يعيشون مع الأحياء.. فهل هناك أبلغ من هذا الرصد؟
أو رواية (خريف البلد) التي وصلت إلى القائمة الطويلة للبوكر، والتي تبرز انفتاح الماضي على الحاضر، وتدور أحداثها في أجواء ريفية بالغة الطهر والنقاء.
وهكذا مع الكثير من أعمال الرجل المبدع، التي بلغت العشرين وهي تسير في ذات الاتجاه النقي والفاعل، أوليس تلميذ نجيب محفوظ، الذي كان يداوم صغيراً على حضور جلساته المعروفة في مقهى (ريش) بالقاهرة العتيقة؟ تلك الجلسات التي وفرت له أبلغ الدروس مع الكبار، ومع الحياة في ذلك المجلس، ودفعته إلى أن يكتب ولا يتوقف حسب نصيحة نجيب محفوظ له شخصياً.. لذلك نراه دائماً وافر العطاء بشتى أنواعه ومناهجه.. ومهما يكن؛ فإن الرجل (محمود الورواري) الإعلامي والأديب، لا ينسى أبداً أن يذكرنا في جميع الحالات، بأن أزماتنا بشقيها السياسي والاجتماعي هذه الأيام، ستظل محفزاً فاعلاً للعقل العربي، على خلق أسلوب آخر للخروج من هذا الواقع، لأن هناك دائماً سبلاً جماعية شتى أمامنا، ليس من بينها فقط ذلك الاحتماء بالماضي التليد وحده، سواء عالجنا ذلك إعلامياً أو إبداعياً، فالأمر سيان.