الدكتور محمد عناني هو الأديبُ المصري والكاتبُ المسرحي والخبيرُ الأكاديمي بالنَّقد، والّذي لم يَعرِف الوطن العربي بَعدْ بِمثلِ عبقريَّته في التَّرجمة، فقد صالَ قلمهُ وجالَ في شتَّى ميادين الإبداع، وُلِد في مدينة (رشيد) بمحافظة (البحيرة) بين الطبيعة والفلاَّحين وصُنّاعِ المراكب والصيادين.
تأثّرَ جداً بقصائد (بيرسي بيش شيلي) الَّذي يُعد واحداً من كِبار الشُّعراء الرومانسيين الإنجليز، فكان عناني مُطَّلِعاً على الحضارةِ الغربية والشرقية، بل و شَرِبَ التُراثَ العربيَّ البَليغ، فكانَ عاشِقاً للكُتب وقارِئاً ذَواقاً، ما أسهم في صَقل فِكره منذ نَشأَتِه وغَرْس بذور الإبداع لديه، وقد شَغلَ مكانتهُ الفريدة في تاريخ المسرح المصري لِعظم ما لديه من التَميُّز بأوجُههِ المتعددة، في الثقافة والفن منذ بداياته في ستينات القَرن الماضي، فشاركَ في مَجلّة (المسرح) منذ تأسيسها بما قَدّمته من الفنِّ والنّقدِ والاطلاع على نوافذِ الثقافة العالمية، إلى أن وصل إلى منصب رئيس تحريرها، حتَّى مُنتصف العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين.

إنَّ التَّرجمة بالنسبة لـ(عناني) هي امتزاج حضارتين في بوتقة واحدة، فكما نقوم بترجمة أعمال العُلماء والفنانين الأجانب، أيضاً هُم عَمِلوا على ترجمة المُؤلَّفات العربية أياً كانت إلى لُغاتهم، وهكذا تطورت الأُمم من خلال التبادل الفكري والاستفادة من تجارب وعلوم الآخرين. فانطلق عناني في مسيرته مُستنداً لشّغفهِ الكبير في التَّرجمة، وأنجز الكثير من الأعمال ومنها كتاب الاستشراق لـ(إدوارد سعيد) شارحاً فيه قيمة الشَّرق، كمنتج فِكري، استفادَ مِنهُ الغَرب، وتمَّ وضعهُ في صورة الاستغلال والاستعباد، وفرض الجهل عليه ونَهب ثرواته، مُؤكداً أنَّ العرب لم يتخلَّفوا في يوم من الأيام عن رَكْب التَفاعُل الثقافي.
استمرَّ تَعلُّقهُ بميادين التَّرجمة واللّغة، فحصلَ على درجة البكالوريوس مع مرتبة شرف في اللغة الإنجليزية وآدابها من جامعة القاهرة عام (1959م)، وعلى الماجستير من جامعة لندن عام (1970م)، وعلى الدكتوراه من جامعة ريدنغ عام (1975م) وهي إحدى الجامعات العريقة الرَّاسخة في المجال البحثي والتعليمي على المستوى العالمي . وأثناء دراسته عملَ كمراقب لغة أجنبية بخدمة رصد (بي بي سي) في (كوفرشم) (باركشير) وهي قرية تقع في المملكة المتحدة في إنجلترا، وهكذا توالت النجاحات لديه، وانتُخِب خبيراً في مجمع اللّغة العربية بالقاهرة عام (1996م)، فكان المُنسّق الأكاديمي لبرنامج جامعة القاهرة الخاص بالترجمة الإنجليزية (1997ـــــ2009م)، وَنَقّح بَعدها كُل تَرجمات وكُتيّبات التدريس الخاصَّة بالجامعة، إضافةً إلى براعتهِ في التَّرجمة من العربية للإنجليزية.
ويُعتَبر من المُترجمين العرب القلائل، الّذين نَشَرتْ لهم أهم دور نشر مِثل (لونكَمان)، فقد تطلّب منه إنجاز ترجمة (ملحمة الفردوس المفقود) للشاعر جون ميلتون نحو عشرين عاماً، وكانت الملحمة موزعة في (12) كتاباً إلى أن أصدَرتها الهيئة المصرية العامة للكتاب ضمن كتاب واحد عام (2002م).
واستطاع من خلالها أن يُقدّم إلى المكتبة العربية إحدى أهم الملاحم الأدبيّة التي تقف بجوار الكوميديا الإلهية والإلياذة، وهي ملحمة شعرية تحكي قصّة حَرب طروادة، وتُعتبر مع الأوديسا أهم ملحمة شعرية إغريقية للشَّاعر الأعمى (هوميروس) إضافة إلـى (بيوولف) وهي ملحمة شعرية وطنية إنجليزية قديمة، تمتاز في عِلم العَروض بأسلوب المعلى، فقدَّمها على هيئة نص في شكل الشّعر الحر، وأحياناً الشّعر المنثور، وفي مواضع كثيرة حاولَ أن يُترجم بعض الأبيات على شكل شّعر موزون مقفّى، خاصةً في الأماكن التي تحتاج الى شاعريّة مثل الحوار بين آدم وحواء.
التزمَ عناني المفهوم التفسيري، فحاولَ أن يحاكي النص من خلال الشّكل والمضمون، وعَمِل جاهداً لتحقيق أهم مبادئ الترجمة كالتثاقف والمثاقفة، فقد غاصَ في عُمق المسرح البريطاني والأدب العالمي وترجمَ (24) مسرحية لشكسبير، منها (تاجر البندقية)، و(حلم ليلة وصيف)، و(دقة بدقة) التي نال عن ترجمتها جائزة رفاعي الطهطاوي للترجمة من المركز القومي للترجمة بالقاهرة إضافة إلى السونيتات الشكسبيرية، والسونيتات هي أحد أهم أشكال الشّعر الغنائي الّذي انتشر في أوروبا خلال العصور الوسطى وكتبَ فيها كبار الشّعراء، ولم يفعلها عربي من قبل ببراعتهِ في ترجمة مشروع هذا الشاعر العظيم بهدف إعادة اكتشافه ككاتب مازال على قيد الحياة، رُغم الغموض الذي لَبِسَ نُصوص شكسبير والذي خلقَ خلافاً بين الباحثين والمُترجمين العرب، خصوصاً إذا كان الكاتب يلجأ إلى توليد فعل أو نحت مصطلح جديد، حيث تفترض الأساليب الإنجليزية إلمام القارئ بالتراث الأوروبي وهو ما لا يتوفر دائماً للقارئ والكاتب العربي، ولكنّه تَوفرَ لدى عناني ما جعلهُ جديراً بهذا العمل، فالترجمة بالنسبة إليه في بعض وجوهِهَا هي تأويل للأفكار وتفسيرها بأسلوبه الخاص لِتُصبِح مناسبةً للغةِ العصر، فقد ترجم الشِّعر شِعراً مَنظوماً والنَّثر نثراً بالفُصحى المُعاصرة، مُلتزماً الدّقة المتناهية في النَّقل والوضوح في المعنى والنَّصاعة في الأُسلوب، وقد لُقِّبَ بـ(عميدِ المُترجمين) وشيخ المترجمين العرب، وبهذا أعطى التَّرجمة رُوحاً ومَنَحَها كُلَّ الحُب، فهي بالنسبة إليه مشروعٌ حضاريٌ، وأساس نهضة الشعوب، الّتي تقوم على تبادل الخبرات والمعارف والاختلافات الثقافية أيضاً، وكأنَّها قَناة إنسانية يتعارف النَّاس من خِلالها.
حصل عناني على العديد من الجوائز، ومنها جائزة الدولة في الآداب عام (1999م) وجائزة الملك عبدالله الدولية في الترجمة (2011م)، وجائزة (ابن تركي) للتميز في الترجمة إلى الإنجليزية (1998م) والتي تُمنح من المملكة العربية السعودية برعاية جامعة الدول العربية، وجائزة الدولة في الترجمة (1982م) عن ترجمة (الفردوس المفقود) إلى اللغة العربية. ولديه أيضاً مؤلفات عِلمية عدة في النقد الأدبي والترجمة.
وتميّزَ في ميدان التأليف للمَسرح فقدّمَ (الغِربان)، و(السَجين والسجان) وغيرهما من الأعمال التي صفَّقَ لها الجُمهور بِحرارة، كما أصدرَ سِيرتهُ الذاتيّة (واحات العمر - واحات الغربة - واحات مصرية).
وهكذا فقد نال عناني (شرف الديباجة) فمزجَ في ترجمته بين الإبداع والأمانة، وكأنَّكَ تقرأ النص في لُغتك الأصليّة، دون الشعور بأنَّه مُترجم، أو أنّه لم يكن في الأصل مكتوباً بتلك اللغة؛ ليظل عناني قِمّةً شامخةً في الترجمة ومدعاةً للفخرِ والإبداع الأدبي، وسيبقى أَثَرهُ في وجدان القارئ العربي، بما ترجمهُ من كنوزِ الأدَب العالمي.