من المعروف أن لكل كاتب سماته الخاصة وأساليبه المتبعة، التي تُميز كتابته ونصه الإبداعي عن كتابات ونصوص غيره من الكتّاب، غير أن هذه المسلمة تبدو أكثر وضوحاً عند د.عمر عبدالعزيز، فأسلوبه الكتابي ولوازمه اللغوية واستدراكاته المعرفية، تُعلن دائماً عن نفسها، وعن كاتبها، في كل ما ينتجه من نصوصٍ بمختلف أجناسها الأدبية والإبداعية، حتى إن القارئ المتابع لو وقعت في يده فقرة أو مقطع من إحدى رواياته، أو حتى من مقالاته الكثيرة، لاستطاع أن يعرف أنها له دون غيره.
وفي هذه المقالة نتطرق إلى بعض السمات السردية واللوازم الأسلوبية، التي حددت معالم وخصوصية التجربة السردية للكاتب وتجلياتها في روايته، أو (مرويته) كما يحب أن يطلق عليها (سلطان الغيب)، وهي الرواية الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر (2020).
تعتبر اللغة الكينونة الأولى للعمل الكتابي وأحد أسرار الإبداع فيه، ولغة د.عمر عبدالعزيز جزء أصيل من مميزات كتابته الإبداعية، فهي لغةٌ لها خصوصيتها الواضحة من حيث المفردات التي يستخدمها، والعبارات التي يصوغها، ومجمل التراكيب التعبيرية والبلاغية التي يتكئ عليها في سردياته، كما في كتاباته النثرية الأخرى.
ولاشك لمن اطلع على كتاباته، أن يلاحظ الحضور اللافت لمجموعة من المفردات الخاصة غير المعتادة، والمقرونة دائماً بنصه الكتابي، أو حتى الشفهي، وهي المفردات التي يأتي بعضها من بطون القواميس اللغوية، وبعضها يهطل من فضاء اشتقاقاته الخاصة، وبعضها الآخر من مجمل التعريب اللفظي أو الصوتي للمفردات الأجنبية. ومن هذه المفردات التي أصبحت من لوازمه في اشتغالاته الإبداعية على سبيل المثال: مدوْزن، مُعوْلم، مموْسق، تأورب، مرابع، الفانية، السانحة، الأغارقة، السيكوباتية، الأكروباتية، الأسكولائية.
كما نلاحظ أيضاً بعض لوازمه المتفردة في مجمل العبارات والصور البلاغية التي يستخدمها؛ عبارات مثل: (الاسترواح في سرمدية الحدوس النائرة، الهوية العربسلامية الكوشيتية، متواليات فوق زمانية، تشكلات فوق بيولوجية، جغرافيا المتاهات المائية اللامتناهية، والانبجاسات المتتالية لقرى المدى البعيد).
والحقيقة أن هذا التميز اللفظي واللغوي، لا يمكن فصله عن ماهية العمل السردي، الذي يقدمه د.عمر، فهو أحد الأعمدة الأساسية لتجربته الكتابية، ولو قمنا افتراضاً بإعادة كتابة مروياته السردية بلغة أخرى، بحيث أبقينا على كل عناصر السرد الأخرى كما هي، ما استطعنا الحفاظ على هذه المرويات، ولتهدم البناء السردي تماماً، حتى إنني أكاد أجزم، أن ترجمة نصوصه السردية إلى لغات أجنبية، هي ضربٌ من ضروب المغامرات التي لا تقل عن مغامرة ترجمة المعلقات السبع مثلاً.
وهنا يمكننا القول، إن مجمل هذه الفرادة في استخدام المفردات والاشتقاقات والصور التعبيرية الخاصة، تأتي من ضمن العوامل التي تجعل نصوص د.عمر، نصوصاً استفزازية بالمعنى الإبهاري الخلاق، سواء على مستوى الشكل أم المضمون، وهو ما ستتم الإشارة إليه والتدليل عليه لاحقاً.
تتميز نصوص د.عمر عبدالعزيز السردية، بل وحتى نثرياته بمختلف موضوعاتها، بظاهرة فياضة تكمن في استخدامها المكثف للاسترجاعات، والتداخلات المعرفية بمختلف أجناسها، ومستويات تعقيداتها، وحداثتها الفلسفية أو العلمية. والمتتبع لهذه الظاهرة، يستطيع أن يدرك أن الكاتب لا يتردد في استخدامها في أول فرصة متاحة، أو أول إشارة سانحة، ليخلق لنا فضاءً موازياً مترعاً بكل ما يرغب في أن يطرحه على القارئ من معارف علمية أو جدالات فلسفات أو أبيات شعرية، أو استدراكات تاريخية، حتى إننا نقف في (سلطان الغيب) أمام سلسلة من المحاضرات القصيرة المحتشدة بمختلف موضوعاتها وتخصصاتها ومستوياتها، من علم البحار والرياح المحملة بالأمطار الموسمية، إلى الصوفية ومفردات الغيب والوجود، إلى القراءات الماورائية لكتب الطب عند العرب القدامى وطرق التداوي الشعبي، إلى علوم النفس والمحاججات الفلسفية والجرافولوجي، إلى اللسانيات والمدلولات اللغوية، وعلم الألوان والبصريات، إلى الرياضيات الجبرية والمنطق الرياضي والمعالِجات الإلكترونية، إلى السلالم الموسيقية وعلم الصوتيات، إلى مركز الثقل للطائرة، وتقنية النانو، والعبقرية الهندسية المائية للسبئيين في بنائهم للصهاريج الطويلة في عدن، مروراً بالوقائع السياسية المعاصرة في الصومال واليمن، ومجمل التغيرات الاجتماعية والسياسية التي مر بها الوطن العربي والعالم.
وهنا ينبغي أن نشير إلى أمرين: الأول أن كل هذه الاسترجاعات، أو المحاضرات القصيرة، يستحضرها الكاتب بشكل تلقائي وعفوي، مغترفاً إياها من مخزونه المعرفي الفائض بالأفكار والمعلومات العابرة للأجناس والحدود المعرفية، دون أن يكون بحاجة إلى أن يعود إلى مراجعها أو مصادرها الأصلية. وهذا الأمر يدركه كل من عرف د.عمر عبدالعزيز عن قرب، أو حضر معه في جلسة خاصة أو عامة، فهو يمتلك نفس القدرة على استحضار واسترجاع كل ما سبق الإشارة إليه من الذاكرة، وبتلقائية حاضرة ومباشرة، فنتاجه المعرفي الشفاهي، إذا صح لنا الوصف، لا يقل إبهاراً عن نتاجه المعرفي الكتابي، وقد يكون هذا الموضوع جديراً بدراسة بحثية بعينها.
أما الأمر الثاني؛ فهو أن هذه اللازمة، تُعد جزءاً أصيلاً من مشروعه التثقيفي التنويري، الذي يحاول دائماً تمريره للقارئ، عبر سردياته وأعماله الإبداعية، فهو يحث القارئ على التوقف عند هذه المداخلات والاسترجاعات، مثيراً عنده الكثير من الاستفهامات والأسئلة، ومستحثاً إياه على الاستعانة بالمراجع، أو بمحركات البحث الحديثة، لمراجعة المفاهيم والمعلومة القديمة، أو الاطلاع على تلك التي لم يسبق له معرفتها من قبل، وهو ما يمكن أن يشكل عاملاً آخر من عوامل استفزازية النص الإبداعي لدى الكاتب.
وليس من باب المبالغة القول، إن مثل هذه الروايات، ينبغي أن تكون ضمن المقررات التعليمية لطلاب العلوم الإنسانية، لما فيها من مفاتيح معرفية، يمكن أن تشكل مادة دسمة للبحث والاستقصاء.
يستخدم الكاتب في مروياته تدويرات زمنية منفلتة من قيود التتابع السردي التقليدي، وقد يكون لهذا صلة بتعمق الكاتب، وانغماره بالفلسفات الوجودية الصوفية وما تعنيه الدوائر، شكلاً وحركةً، من ترميزات عميقة المعنى.
فالنص السردي في (سلطان الغيب) هو مرآة لدواخل النفس وانشغالات العقل لدى الكاتب، ولهذا كان التعاطي مع الزمان والمكان في المروية نتاجاً طبيعياً لمفهومهما الفلسفي عنده، والذي عبّرت عنه إحدى شخصيات الرواية، وهي الجدة (بلة علي دقود)،
التي كانت (تنظر إلى الزمان، كما لو أنه سفرٌ من الغيب إلى الغيب، والمكان بوصفه هشيماً ستذروه الرياح ذات يوم). أو الذي عبرت عنه (مريوم)، وهي إحدى الشخصيات الأكثر حضوراً في الرواية، في تحوير بسيط لما قاله ابن عربي عن الزمان والمكان، إذ تقول: (ليس المكان إلا زمناً تجمَّد وتحجر، وليس الزمان إلا مكاناً انساب وسال دونما ضوابط).
ومن هذا المفهوم الصوفي للمكان والزمان، نرى كيف تتداخل الأزمنة والأمكنة السردية دون ترتيب أو تتابع زمني أو جغرافي، فالقارئ موعود بتطواف لولبي في أزمنة الخطاب السردي وتشظيات الأمكنة، التي تقع فيها الأحداث المختلفة والمتداخلة في المروية. وقد استخدم الكاتب تقنيات سردية متعددة في هذا التطواف؛ منها تقنية (الفلاش باك)، سواء بصيغتها التقليدية المعروفة، أو غير التقليدية، والتي اعتمدت على التنقل القافز بين الشخصيات والأزمنة، دونما أي تحرزات أو التزام بهيكلية معينة، أو بتبويبات الفصول، فنحن مثلاً في فصل (الحمودي) لا نقرأ عن الحمودي، بل عن ابنه عبدالعزيز، قبل أن يظهر لنا فجأة أبوه (المُجارح) العائد من إيطاليا إلى القرية، وما إن نبدأ بالانسجام والتماهي مع سرد وقائع أيامه فيها، وتجاربه في تجميع وتجفيف النباتات الدوائية، وتداخلاته مع أهل القرية وحيواناتها، حتى يظهر لنا الحمودي نفسه في تدويرات سردية متداخلة، لا تعتمد على المألوف من التتابع السردي.
تتضمن رواية (سلطان الغيب) شخصيات درامية رئيسية، تتحكم في مسار السرد وتصاعده الدرامي، وهي تتداخل بين الحين والآخر، مع مجموعة حاشدة محتشدة من الشخصيات الدرامية الثانوية، التي تهب على القارئ كنسمة بحر منعشة، قبل أن تتوارى في الكواليس السردية، وقد تركت بصماتها الواضحة في ذهنه. ومن هذه الشخصيات نقرأ مثلاً شخصية (الأحدب)، معلم الموسيقا ومؤجر العجلات الهوائية، و(الأعور)، الذي امتهن التصوير بعد أن لاحظ أن للكاميرا عيناً واحدة مثله، وأنها قادرة على محاربة مرض النسيان، قبل أن يقع هو فريسة لمرض (عدم النسيان). وكذلك نقرأ عن (مكة)، الشابة الأبنوسية القادمة من تضاريس الجمال الساحرة لعقل الصبي السارد، التي فتحت له أسرار العشق والغرام البكر، كما نقرأ عن (عمر) طبيب الحارة، صاحب حقنة البنسلين، المتفنن في إخافة الأطفال وإرضاء الأمهات.
غير أن المتابع للأعمال السردية للكاتب، سيدرك بوضوح أن معظم شخصيات الرواية، وعلى وجه الخصوص الرئيسية منها، كانت قد ظهرت في أعمال سابقة معنونة بأسماء هذه الشخصيات، على سبيل المثال (الحمودي)، وهي الرواية التي أحجم المؤلف عن تصنيفها، والصادرة عام (2013)، وكذلك رواية (مريوم) الصادرة عام (2015).
وهنا يفرض السؤال التلقائي نفسه على القارئ: لماذا يعيد الكاتب شخصياته السردية التي ظهرت في أعمال سابقة، ومعروفة في مروية سردية جديدة؟ وكيف يا ترى ستظهر هذه الشخصيات في هذ المروية الجديدة؟ هل سيتم الاحتفاظ بها وبمعالمها كما هي، أم ستتم كتابتها بشكل آخر؟ وهل يمكن اعتبار هذه المروية الجديدة جديدة حقاً، أم أنها استنساخ أو امتداد للمرويات السابقة؟
والإجابة عن هذه الأسئلة من وجهة نظرنا، تحمل المفردتين المتضادتين: نعم ولا. فالشخصيات والأحداث والمسميات، تكاد تكون نفسها، لكنها في (سلطان الغيب) تتموضع في فضاءات سردية جديدة أكثر اتساعاً، وتنساب في أزمنة وأمكنة أكثر انطلاقاً، وتتداخل مع شخصيات أكثر تطوراً في حضورها السردي وعمقها الإنساني، وهي بسبب هذا التموضع والتداخل تكتسب أبعاداً جديدة متجددة. وهنا أيضاً لا يبدو أن الأمر بعيد عما سبقت الإشارة إليه، من انشغال الكاتب وانغماره بالدلالات الفلسفية للتدوير، فالنص الذي يبتدعه الكاتب لا يتوقف عند تنوعاته الشكلية والمضامينية، بل يعلن عن نفسه كنصٍ عابرٍ للمؤلفات والعناوين، نص يحاول إكمال رسم معالم مجرة تدور فيها كواكب ونجوم مختلفة، أو ربما متشابهة، فمفهوم الاختلاف والتشابه في اشتغالات د.عمر السردية يكاد يكون واحداً.
وهذا ما نجده أيضاً عند سمة لازمة أخرى للكاتب، وهي توحد الصوت السردي وحضور المؤلف/السارد في شخصياته الروائية المختلفة والمتشابهة في الآن نفسه، وخاصة تلك التي ينتمي إليها وتنتمي إليه. فالمؤلف/السارد، يصبغ هذه الشخصيات بلونه الخاص، ويشكّل وجودها السردي بوعيه الذاتي، ووفق رؤيته وإدراكه وفهمه للوجود والموجودات، لكن دون أن تفقد هذه الشخصيات خصوصيتها السردية واستقلالها الدرامي. فالمؤلف/السارد، في (سلطان الغيب) لم يكن ابن عبدالعزيز (العابر) وحسب، بل كان هو الأب (الحمودي)، والجد (المُجارح)، والجد الأكبر (الطيار)، بل وربما بقية الشخصيات أيضاً.
يحتشد النص السردي في رواية (سلطان الغيب) بالعديد من الوقائع الغرائبية المدهشة، والحكايات الأسطورية الماورائية، والفنتازيا المترعة بالخيال، وهي الثيمات التي تعتبر أيضاً من اللوازم المعروفة للتجربة السردية للكاتب، على أن تجلياتها في هذه الرواية، تكاد تكون الأكثر وضوحاً. فسيرة أسرة السارد، بأجيالها المتعاقبة لقرن من الزمن، وأقدارها العجيبة، ومعارفها المتنوعة، ومصائرها المؤسطرة، وسفرها الدائم بين الأمكنة والحتميات، كل هذا يذكرنا بالأقدار الملحمية الغرائبية الملتصقة بجينات أسرة العقيد (أوريليانو بوينديا) في رائعة ماركيز (مائة عام من العزلة). فها نحن نقرأ في (سلطان الغيب) كيف خلع الجد الأكبر (الطيار) عمامته من فوق رأسه ورماها في البحر، ليجدها مستوية مستقيمة ثابتة على سطح الماء، قبل أن يستجيب للنداء الداخلي، ويتقدم نحوها ويصعد عليها، ويطير بها ماراً بجوار السفينة (أمام ذهول واستغراب الجميع).
وفي تتبعنا الممتع لسيرة نمو وتحول المكان والزمان في حارة العرب في مقديشو (بلاجه عرب) نجد عدداً كبيراً من الوقائع الأسطورية والشخصيات السوريالية، والتي يمتلك بعضها قدرات خارقة للعادة، مثل شخصية (زهرة اليمانية) التي تنطق باللغة السواحلية بعد نوبات الصرع، التي تعتريها دون أن تكون قد تعلمتها من قبل، أو (حسنو) الذي كان يرمي بمنديله الأخضر إلى الهواء ويمسك بطرفه، ويطير مختفياً بين السحاب. مروراً بالقمر الذي انشق إلى نصفين فوق مدينة دبي واقترب من الأرض، وتطاير الناس إلى السماء بسبب اختلال الجاذبية. كما نقرأ بدهشة ما حكاه الحمودي الابن عن الأنبوب، الذي تأكسد في إحدى عمارات المعلا بعدن، وكيف أنه بسبب الإهمال والتقادم، انفجر في يوم من الأيام مسبباً فيضاناً أغرق المدينة، وأخرج من أحشائها الأثاث، ومواد التموين، والجثث البشرية والحيوانية، ليصل إلى البحر فتخرج الأسماك متقافزة صوب اليابسة لتلقى مصيرها المحتوم، بينما تتقاذف الطيور والنسور والغربان صوب مياه البحر، لتلقى بدورها ذات المصير المحتوم. وهي الغرائبيات السحرية المدهشة من ناحية، والرمزية الواعية من ناحية أخرى، والتي تذكرنا بغرائبيات الروائي الياباني الشهير (هاروكي موراكامي) في رائعته (كافكا على الشاطئ)، ونحن نتخيل السماء التي تمطر أسماكاً، والقطط التي تتكلم بعد أن رسمها لنا المؤلف بواقعية شديدة التصديق.
تشتمل التجربة السردية عند د.عمر عبدالعزيز، على عدد كبير من المميزات والثيمات الخاصة المتجذرة في لغة النص الذي يكتبه، والمتضمنة حزمة متشعبة من اللوازم والسمات الأسلوبية، التي تثري النص من جهة، وتجعله متفرداً من جهة أخرى. وقد استعرضنا بعض هذه السمات الأسلوبية، من خلال روايته (سلطان الغيب)، وعلى وجه الخصوص اللغة المتفردة، والاسترجاعات الأدبية والمعرفية متعددة الأجناس، والتتابع الدائري للزمن السردي وتشظيات المكان، مروراً بما تشكله الرواية من نموذج واضح لإعادة تصنيع السرديات السابقة للمؤلف، وانتهاءً بالواقعية السحرية وغرائبية السرد.
كما تجدر الإشارة إلى أن هذا الحشد من السمات والخصائص، يجعل أي قراءة لها، بما فيها هذه القراءة، بمثابة مفتتح لقراءات أخرى، تحاول جميعها رسم معالم فضاء سردي متعدد، واسع وجديد.