انتهت سنة (2020م) والعالم لم يعد كما كان عليه في بدايتها. وعلى الرغم من أنني، مثل الجميع، أحتفظُ في هذه السنة (الكُورُونية) بالكثير مما سيظل عالقاً في الذاكرة لفترةٍ طويلة، فإنني قررتُ أن احتفظَ بشكلٍ خاص بذكرياتِ الأشهرِ الثلاثة الأخيرة منها، وهي الأشهر التي قضيتُ معظم وقتي فيها في رحلةٍ قرائيةٍ ممتعة لعالَم (عبدالعزيز المَقَالِح) الشعري، لغرض إعداد مختاراتٍ من قصائده ستظهر قريباً في كتاب بعنوان (حروفٌ مبرأةٌ من غبار الكلام).
والحق أنني كلما قمتُ بعملٍ يخص المقالح، أو كتبتُ عنه، أتردد كثيراً، فقد قيل قديماً إن شدِة القُربِ حجاب، وقُربي الشخصي منه، ومكانته عندي، وعند أبناء جيلي، هي من العُلوّ والتقدير والمحبة والمهابة ما تستدعي التأني، غير أني سعدت بخوضِ هذه التجربة التي دفعتني إلى قراءة مجمل إنتاجه الشعري من جديد، فكان شِعره، هذا البحر الساحر الرائق المُمتلئ بالجَمالِ والعُنفوانِ والحُزنِ النبيل، كَبُرَاقٍ طار بي إلى تُخُوم السماء، مُتنقّلاً بين مواويل الأمكنة، وسابحاً في مَجرّات الذات؛ كان بلسماً وجدانياً في هذا الزمن (الكُورُوني) المشحون بمختلف التّحدّيات والطافح بأوجاع الحرب وقسوَتِها.
مما لا شك فيه أن المقالح قد سجل اسمَه كأحدِ رموز وأعلام الأدب والثقافة العربيّة المعاصرة، وكان له الفضل الأكبر، ولايزال، في فتح أبواب اليمن الثقافية الزاخرة للعالم، وفتح أبواب الثقافة والأدب العربي والعالميّ على اليمن، حَدَّ اقتران اسمِهِ باليمن، واقتران اليمن باسمِه، وهو اقترانٌ له شأنهُ وقيمتُه، وما كان لأحدٍ أن يَبلُغَه لولا الإيمان الـمُتجذر في ذات المقالح، بهذا التوحّد الذي آمَن به وأخلصَ له وأفصحَ عنه يوماً حين قال:
في لساني يَمَنْ
في ضميري يَمَنْ،
تحتَ جِلْدي تعيشُ اليمنْ
خلفَ جَفْني تنامُ
وتصحو اليَمَنْ،
صرتُ لا أعرفُ الفرقَ ما بينَنا..
أيُّنا يا بلادي يكونُ اليمنْ؟!
ومازلتُ أتذكّر ما حكاه سياسيٌّ يمنيٌّ مرموق، تم تعيينه دبلوماسياً في الجزائر بداية الثمانينات، عندما سأله سائقُ تاكسي في وهران: من أين أنت؟ وحين ردَّ عليه أنه من اليمن، قال له السائق مُرَحباً: مِن بلاد المقالح! ذكرت هذه الحكاية عندما زرتُ مدينة (براغ) لأول مرة، وهي المدينة العريقة بالفن والتاريخ التي يطلق عليها البعض (مدينة كافكا)، نسبة إلى الكاتب التشيكي فرانز كافكا، رائد الكتابة العجائبية والكابوسية، الذي ولِدَ فيها، وكتبَ عنها معظم أعماله الروائية الشهيرة. ولهذا تجد كافكا في كلِ مكان؛ في شوارعِ المدينةِ الضيقة، وساحاتها المشمسة، ومتاجرها السياحية، وفي عدد غير قليل من تماثيله ومجسماته بمختلف مدارسها الفنية، وفي (متحف كافكا) القابع وسط المدينة، والذي يحتفظ بمخطوطات الكاتبِ الأصلية، ورسائله الشهيرة، ومقتنياته الشخصية، ومعارض بصرية عن حياته وأدبه. ذكرتُ الحكاية وباغتني السؤالُ المستمر: متى سيحظى المبدعُ العربيُ بتكريمٍ مماثل في مُدْنِهِ العربية؟
لقد عاش المقالح طفولةً صعبةً ككلّ أبناءِ جيله في اليمن، وتشكّلت أُولى ملامحِ وعيِه من البيئة التي تربّى فيها وانتمى إليها، والتي ارتبطت برفض حالة الموت، والتطلع إلى الانعتاق من أغلال القمع والظّلم وقسوة الفقر والتخلف، ولم يتوقّف المقالح عن النّضال المباشر وغير المباشر دفاعاً عن بلاده ومبادئها السامية، وبثّ روح الحماس في الشباب التّوَّاقين للحرية والعدالة الاجتماعية والتقدم المنشود.
الصمتُ عارْ
الخوفُ عارْ،
منْ نحنُ؟
عشّاقُ النهارْ..
نبكي،
نحبُّ،
نخاصمُ الأشباحَ، نحيا في انتظارْ..
سنظلُّ نَحفرُ في الجدارْ
إمّا فتحْنا ثغرةً للنورِ،
أو مُتْنا على وجهِ الجدارْ.
والحقيقة أن المقالح، على تعدّد صفاتِه الإبداعيّة ومكانته الثقافية والاجتماعيّة الكبيرة، ينتمي أولاً وأخيراً إلى الشِّعر؛ إلى كينونتِه الـمُتجذّرة في ذاته ووجدانه وعشقِه الأبديّ. بدأَت تجربته الشعرية منذ وقتٍ مبكر في خمسينيات القرن المنصرم، وكان ينشرُ النصوصَ تارةً باسمِه وتارةً بأسماء مُستعارة، في فترة كان يقوم فيها الشاعر الشاب، المتعدد المواهب، بكل جِدّ ومثابرة، بتأهيلِ نفسه شِعرياً وفكرياً، وإعدادِها للدّور، الذي كان مكتوباً لها في تصدّر المشهد الشعريّ في اليمن، ورفعِ راية التّنوير والأدب والثقافةِ المعاصرة عموماً، لأنه، كما قال البردوني، (أرادَ أن يبدو كبيراً منذ البداية)، وهو ما تحقق له منذ صدور ديوانه الأول (لا بد من صنعاء)، فقد أعلن عن نفسه كشاعرٍ كبير، وعن تجربة تجديديّة غير معتادة في الشعر اليمني كان هو رائدها الأكثر جرأةً واقتداراً. ومنذ ذلك الوقت، وحتى الآن، كَرَّسَ المقالح جُلَّ وقته وجهده أيضاً في تقديم أدباء اليمن المعاصرين بمختلف أجناس أعمالهم الإبداعيّة إلى الوطن العربي، وقام بتنشيط حركة النّشر والنقد الأدبيّ والعلمي، واستقدم من خلال مواقعه الإداريّة المرموقة صَفوةَ الأدباء والمفكرين والفلاسفة والأكاديميّين العرب، في مختلف مجالات المعرفة، وكان من أهم رعاة الفن وأعمدة التغيير والتجديد الأدبي والثقافي والاجتماعي في اليمن الحديث.
ليس من المبالغة القول إن المقالح يقف، بشكلٍ أو بآخر، وراء كل أديب يمنيّ معاصر معروف، فعلى كثرة مشاغلِه والتزاماتِه ومسؤولياتِه، لم يبخل يوماً على أيّ شاعرٍ أو أديبٍ أو كاتبٍ من مختلف الأجيال بالدّعم والتشجيع والتقديم والنقد، كما ظَلَّ مواظباً بهمّةٍ عالية على حضوره اليوميّ في حياة اليمنيّين عبر مقالاته في الصّحف اليمنية والعربية، وبرامجه الإذاعيّة والتلفزيونيّة، وأشعاره التي يقرؤها الطلاب في المدارس، ومقدماته وأبحاثه وكتبه التي يعكف عليها طلابُ الجامعات والباحثون والأكاديميون، والعدد الهائل من رسائل الماجستير والدكتوراه، التي أشرف عليها عبر عقودٍ من الزمن، إضافةً إلى مئات المقالات والدراسات والأطروحات، التي كُتِبَت عنه وعن شعرِه، كلّ هذا الحضور الشاسع انعكس بالضّرورة على حجم تأثير شعرِه، على شريحة واسعةٍ جداً من القرّاء بمختلف أعمارهم واهتماماتهم، ومدى ارتباط هذا الشعر بحياتهم وهمومهم وقضاياهم وتطلعاتهم الكبرى.
في رحلة قراءتي الممتعة لعالم المقالح الشعري، التي سبق الإشارة إليها، مررتُ ببواكيره الشعرية بِسِماتِها الفنيّة الكلاسيكيّة، ومواضيعها المشحونة بحسِّ التحدّي، واستلهامها للتراث اليمنيّ والعربي، ثم دلفتُ إلى روحانيّاته الصوفيّة وفلسفته التأمليّة التي شكّلت علامةً فارقةً في شعره لفترة من الزمن، وهي الفترة التي شهدت أيضاً ملامحَ التّجديد الشِعريّ الذي عرَّفهُ بـ(الأَجَد)، ومزاوجته بين الأجناس الشعرية والأدبيّة المختلفة، لتنتهي الرحلة على تخومِ بكائياتِه التي كتبها في السنوات الأخيرة، والماضي القاسي الرَّهيب الذي يحاول أن يعود من كهوفِه، شاهراً سيفَ الظّلام والموت في وُجوهِ الجميع.
أيّها الجائعونَ
أفِيقُوا...
ولا تَصبـِروا
كلُّ شيءٍ سَيمضي
كما يَشتهي الجُوعُ
ليس كما يَشتَهي الجائعون
هكذا قالت القَنواتُ..
فلا تَصبـِروا
واحذَرُوا..
لقد رفضَ المقالح الصمت عما يجيشُ بداخله من حرقةٍ وألم، وجاهرَ بالبكاء على وطنه وناسه، البكاء الذي يشعره بأنه لايزال حياً لم يمت بعد، فالصمتُ بالنسبة له قرينُ الموت، والتجاهلُ قرينُ الخيانة:
سَأبكي
وأَبكي
لأشعرَ أَني مازلت حيّاً
وأَنَّ دَمِي رهنَ قيدِ
الحياةْ
فلا تُرغموني على الصمت
إني إذا ما صَمَتُّ أَموتُ،
إذا ما افتقَدتُ بكائي
وصوتي
انتقلت إلى عالمِ الميتينْ
في كل هذه الـمُنعطفات التجريبية، وعلى امتداد الرّحلة الشِعريّة الباذخة، ظلَّ شعرُ المقالح مزيجاً مُتقناً من شفافيّةٍ لغويّةٍ مُبهرة وتوهّجٍ فكري عميق، كما ظلَّ الإنسانُ العربي بعذاباتِه وآمالِه وتطلعاتِه هو أَصل النقطة التي تتشكل منها دوائرُ بحارِ ومحيطاتِ عوالِمِه الشعرية، فلم يكتُب أحَدٌ عن الفقراء وحقهم في المساواة، أو أفردَ لِلأُمِّ والأصدقاء والمدن دواوينَ بعينها، مثلما فعل المقالح، ولم يكتب أحَدٌ عن الحُبِّ في وطنٍ خاصَمَهُ الحُبُّ، أو كَرَّسَ حياتَه وشِعره لمدينةٍ عاش فيها وعاشت فيه، كما فعل المقالح مع (صنعاء) التي لم يغادرها منذُ عقودٍ، والتي أهداها عشراتَ القصائد، ونشرَ عنها ديواناً شِعرياً أسماه (كتابُ صنعاء). كما لم يكتُب أحَدٌ عن الحُزن في بلادِ (السّعيدة) مثله، حتى أصبح الحزنُ إحدى السّمات الأكثر وضُوحاً في شِعره؛ الحزنُ الذي لم يتَخلَّ المقالح عنه ولا هو تخَلَّ عن المقالح، كما يقول البردوني، والذي بفضلِه أصبح المقالح شاعراً حسب اعتراف الشاعر نفسه في مقدمة ديوانه الشعري (رسالة إلى سيف بن ذي يزن):
يتملَّكُني حزنُ كلِّ اليمانيينَ
يفضحُني دمعُهُم..
جُرحُهم كلماتي
وصوتي استغاثاتُهم..
يتسوَّلُ في الطُّرقاتِ الصَّدى
كلَّما قلتُ: إنَّ هواهم سَيَقتُلُنِي
ركضَتْ نخلةُ الجوعِ في ليلِ منفايَ
فانتفضَ العُمرُ
وارتعشَتْ في الضلوعِ دفوفُ الحنينْ
في الرّحيل المبكر للشّاعر اليمنيّ محمد حسين هيثم، قبل سنوات، كتبَ المقالح أنّه لو كان هناك عشرة شعراء في اليمن فهيثم أحدهم، ولو كان هناك خمسة شعراء في اليمن فهيثم أحدهم أيضاً، في مقاربةٍ بلاغيّة أراد بها المقالح أن يؤكّد أهمية التجربة الشعريّة لهيثم، فاليمن دون شَكٍّ مُترع دوماً بالشعراء النجوم الكبار؛ فهل يمكن لنا يا ترى أن نُحاكي مثل هذه المقاربة البلاغية عن المقالح وموقعه الأَول في ناصيةِ الشِعر في اليمن؟
لقد عاش المقالح حياةً عبقريةً، فذّةً، مليئةً بالتحدّياتِ والإنجازاتِ الشعريّة والثقافيّة والفكريّة الكبرى، ونالَ عدداً من الجوائز، وأوسمةِ الفنونِ والآداب، من اليمن ومن خارجه، ووصل شِعره إلى أصقاع كثيرةٍ من العالَم، بعد أن تُرجِمَ إلى عددٍ من اللُّغات، ووَضَع لنفسِه مكانةً رفيعةً ومُميّزةً في قلوب الملايين مِن قُرائِه وتلامذته ومحبّيه، في اليمن والوطن العربي، تاركاً بصمتَهُ الفارقةَ في ديوانِ الشّعر العربيّ، كأحَدِ أهَمّ وأشهَر شعراء العربية المعاصرين.
لأرضِ الرُّوحِ أَكتُبُ ماءَ أشعاري
وللهِ الذي بسمائِهِ، وجَلالِهِ، يحتَلُّ وِجْداني
وأفكاري
وللأطفالِ،
لِلْمَرْضى،
وفي رحابِ اللهِ تحتفِلُ السماءُ به،
لِكُلِّ مُسافرٍ في شارعِ الإيمانِ
تُشرِقُ في مرايا قلبِه
أَسرارُ مَنْ سَوَّاهُ من ماءٍ وفَخَّارِ
لهمْ أتعمَّدُ النَّجْوى
وأرسُمُ ظِلَّ أَحزاني
وأوزاري